نعى الناعي، ظهر الإثنين، علامة العصر ومجدد القرن الشيخ د. يوسف عبدالله القرضاوي، عن عمر عريض في العلم والتجديد طويل في الفعالية والأداء، فقد عاش قرناً هجرياً ثمرته أكثر من مائة كتاب وآلاف الساعات من الخطب المنبرية والمحاضرات الفكرية والدروس العلمية والتربوية، شملت مجالات الفقه والأصول والسنة والقرآن والدعوة والفكر.
وبذلك طوي علم الدعوة المنشور، وصمت مبيّن الدين المبين، وانسد كهف الأمة المنيع، ودك جبلها الأشم، وسكت لسانها الناطق، وودع الأقصى حارسه الأفصح، وانكسرت سن قلم الحق، وجف مداد الحقيقة.. مات الشيخ يوسف القرضاوي فماتت المعاني موتة المباني، وهوى الصرح على من فيه بما فيه.
مواقف وذكريات
شاء الله أن يممت قطر وسط التسعينيات فألفيت الشيخ يوسف ملء السمع والبصر، فكانت خطبه التي يغص مسجد عمر بحضورها، غذاء علميا وعاطفيا تشعر فيه بالتحضير العلمي والحضور الذهني والتدفق العاطفي، كما كان لبرنامجه الأسبوعي في التلفزيون وحضوره في المجالس والندوات ما زادني إعجابا بالرجل وتقديراً لعلمه.
ويفاجئني في الرجل قدرته الفائقة على التوازن فيما يقول ويطرح، فلم يكن ليسكت عن حق رآه أو سئل عنه، ولم يكن ليتحامل مع العامة ولا ليطأطئ للخاصة، ولئن كانت قطر أكرمته، فلم تصادر رأيه ولم تتضايق من انتقاده لبعض المواقف السياسية، فقد كان وفيا لها ولرجالها في لحظات الصدق التي تستدعي ذلك من غير تملق ولا تردد، وتلك لعمري توازي الأولى في الصعوبة.
وأذكر أنه انتقد بشدة زيارة بيريز لقطر عام 1996 ومن على منبر مسجد عمر بن الخطاب، في خطبة منقولة مباشرة -وكل خطبه كذلك- فما تردد في الكلام، ولا جمجم في المعنى، بل تحدث بصراحة ووضوح، وكان مما قال إن على من صافح بيريز أن يغسل يديه سبعا إحداهن بالتراب، وأذكر أن سفيرا عربيا كان حاضرا في تهنئة العيد قال إن القرضاوي لما تقدم للسلام على سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني حفظه الله، كالعادة، بادره ضاحكا: سلم يا شيخ! فو الله لقد غسلتها كما طلبت، أو ما في معنى ذلك.
والعارفون بمجمل مواقف القرضاوي وبدولة قطر يدركون كم كانت السياسة القطرية تجد حرجا في مواقفه المعلنة على تلفزيونها أو على الجزيرة أو على المنابر، فما ضاقت ذرعا بذلك، وهذا واجبها الذي أدته على أحسن وجه، وما سكت هو عن حق، وذلك واجبه، ولكل تقديره واحترامه، ومن شاء أن يتأكد فليراجع على الإنترنت مواقفه من التطبيع، ومن قاعدة العديد ومن مواقف مجملة للجامعة العربية وغيرها، ففي ذلك ما يدل على ما أسلفناه مما لا تسعف هذه الكلمة لاستطراده.
وحتى أقعده المرض كان الشيخ القرضاوي حاضراً في كل المناسبات، وكان موضع الإكرام وليس أقل ذلك التهنئة المشهورة بعد الحصار التي قبل فيها الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني جبين القرضاوي.
لقاءات
وكنت امرءا جبله الله على الابتعاد عن المشهورين، لا زهداً فيهم أو تزاهداً، لكنه طبع متمكن، فكانت لقاءاتي بالرجل محدودة، أملتها ظروف من غير ترتيب مني ولا مسعى ملح من جانبي.
أذكر أني زرته المرة الأولى في مكتبه بجامعة قطر في مركز دراسات السنة والسيرة عام 1996، وأشار علي بعضهم بالسعي للعمل عنده أو بواسطة منه، فرفضت لا زهدا فيه ولا في العمل الذي أبحث عنه، بل لأني أشفق على أمثاله من كثرة طلاب المهام، وقد شهدت الأيام بذلك في حقه، فكانت زيارة تلميذ لأستاذ ومسترشد لشيخ وطالب علم لمجدد مجتهد.
وأذكر أنه ركب معنا في سيارة فضيلة الشيخ محمد المختار عبده الإمام بمنطقة الدفنة، لنوصله إلى بيته فزودنا من حاضر النكتة وواضح العلم وجميل الشعر ومتدفق الأدب ما تمنينا معه لو طالت الرحلة وبعد المكان.
وأذكر أني طلبت منه إنشادنا من شعره، وطفقت أذكره ببعضه، فقد كنت طالعت من قبل ديوانه “نفحات ولفحات” وقرأت بعض أشعاره السيارة كنونية السجن الحربي وطائية المسلم الطنانة:
يا مسلـماً بعــرى إسلامه ارتبطــــا هـــلا وفيــت بمـــا مـولاك قد شرطا
أبا المعاصي ترى الفردوس دانية من يزرع الشوك لم يحصد به الحنطا
وتعمدت أن أستثيره بأن قلت: أسمعنا من شعر الشعراء لا شعر العلماء، فقال ضاحكا: إن للعلماء من الشعر ما للشعراء من العلم.
ثم كان اللقاء الثاني في بيته العامر تهنئة بعيد الفطر المبارك، بعد ذلك بسنوات، فأتحفنا كما في السابق وزاد بالسؤال عن الوطن وأوضاع المسلمين وهو يبث الأمل، في وعي وحكمة واقتدار.
وانقطعت عنه رجوعا لطبيعتي في البعد، حتى كانت الاعتقالات السياسية في موريتانيا التي قام بها نظام معاوية ولد الطايع في 2003 و2004، فسعيتُ مع نفر كريم إليه بحثا عن تعاطف من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مع الشيخ محمد الحسن بن الددو؛ المعتقل حينها ظلما وعدوانا لرفضه التطبيع وإصداره فتوى تحرم ذلك، كانت موضع حفاوة وتسليم جميع العلماء المشار إليهم بالبنان في البلد.
وإن أنس لا أنس توجع الرجل وتفجعه، واستعداده لفعل ما يطلب منه، ومع ذلك فقد تريث ليكون على بينة، ولينظر في الأمر من جميع الوجوه، فما جعله حبه للشيخ الددو، ولا تقديره للحركة الإسلامية هناك، ولا وقوفه الصادق مع المظلومين، يتعجل دون أن يستكمل وجوه النظر في المسألة.
وكان أول من اتصل عليه -حسبما عرفت لاحقا منه- هو الشيخ عبد الله بن بيه، تقديرا لعلمه ووعيه ومنزلته بالاتحاد، ومعرفته وتزكيته لقرابته الشيخ الددو، فضلا عن مكين صداقتهما وتقاربهما الفقهي والفكري إجمالا حينها.
وهنا يبرز حس المسؤولية والمؤسسية لدى القرضاوي، فقد طلب منه ابن بيه التأجيل لأنه توسط عند معاوية في الملف، وينتظر منه خطوة إيجابية في الموضوع، فطلب القرضاوي التريث في إصدار بيان، وكنت شخصيا لا أرى ذلك، فلا معاوية سيرد إيجابا على وساطة ابن بية -كما أكدت ذلك الأيام- ولا ابن بيه مستعد لأن يكون في هيئة تتخذ موقفا من حاكم بلده الذي يستوزر ابنه، وتلك منهجية تتسق وفكر الرجل الذي شب في نظام، وشاب وزيرا ومسؤولا، لا يرى معارضة لحاكم ولا وقوفا مع مسجون سياسي.
راجعت الشيخ القرضاوي وكنت في ذلك ملحًّا، وقلت له -مما قلت- إن الوساطة لن تنتج، وإن الشيخ ابن بيه لن يوافق على أن يصدر الاتحاد بيانا، وكان لقاء فيه شيء من سخونة، فقد كان الأمين العام الدكتور الشيخ علي القره داغي حاضراً، ويرى انتظار نتيجة وساطة الشيخ ابن بيه، وكان الشيخ القرضاوي محرجا من هذا المسار ويرى في كلامي وجاهة، فما الحل والأمين العام ونائب الرئيس ينتظران الرد ممن لن يرد؟!
احترم القرضاوي المؤسسية، ولكنه احترم الموقف الشرعي، وأدى فريضته في وقتها، ولم يتركها لموازنات وهمية كما تبين لاحقا، فأصدر بيانا باسمه شخصيا، طالب فيه حكام موريتانيا بإطلاق سراح علامتها الشيخ الددو، وإكرامه والتعامل معه بمقتضى ذلك، وما زالت تلك الرسالة في أرشيفات الأخبار بتوقيع القرضاوي شخصيا لا رئيسا للاتحاد، وعليها تصويب كلمة مطبوعة بخطه الرقعي الأنيق.
تعمدت سوق هذه الواقعة لتكشف جانبا من شخصية الرجل الذي لا يداهن فيما يراه حقا، ولا يتجاوز ما يراه مؤسسية، وهي موازنة صعبة ما كان له أن ينجح في تأسيس وإدارة أكبر منظمة للعلماء عبر العالم الإسلامي لولاها، فقد كان بإمكانه أن يخالف الشيخ ابن بيه، ويصدر البيان باسم الاتحاد، لكنه لم يرد أن يخالف روح الشورى في المؤسسة، ولا أن يخالف واجب الوقت في إنكار المنكر، وذلك إبداع حقيق بالتقدير والثناء.
ثم كانت لقاءات ثلاثة أخرى بناء على طلب من زائرين موريتانيين لم يجدوا في أنفسهم القدرة -ولهم الحق في ذلك- على أن يزوروا قطر ولا يلتقوا بالشيخ يوسف. وكان آخر هذه اللقاءات بعد زيارته لموريتانيا فأثنى ثناء حسناً على مسؤوليها، بدءا من الرئيس وانتهاء بعامة الناس، وقد سجل بإعجاب وتقدير روح التدين، وكرم الضيافة، وسماحة العلماء وتواضعهم، معرجا على لقائه الذي لا يقدر بثمن عنده مع الشيخ محنض بابه بن أمين الذي قال عنه ما معناه إنه غزالي العصر وجنيديه وحافظه ومالكه، ولعل مناسبة أخرى تسمح باستعراض ما ندّ عنه من تفاصيل ومواقف في تلك الزيارة.
مجدد الدين.. لسان الأمة
قرأت القرضاوي مبكرا أيام الإعدادية، وتلك قراءة وإن لم تكن واعية فقد كانت هادية؛ بتعبيرها المشرق وعبارتها الجزلة ومنهجيتها التعليمية المسترسلة، ثم تتالت القراءات في كتبه الفكرية ومذكراته وتآليفه العلمية، فكان نعم الأستاذ المربي والفقيه الواعي والمفكر العضوي والمثقف المثالي.
تحامل كثيرون على القرضاوي منهم سلفيون تبرأ منهم السلفية، ومنهم متمسكون بحرف فقه جمد على التقليد، وخاف من كل روح تجديدية، فقد كان القرضاوي ببرامج فتاويه على إذاعة وتلفزيون قطر ممن أسهم في تقريب الفقه للناس حلا لمعضلاتهم، وتيسرا لإشكالاتهم، وردا على استفساراتهم، وكان لي شرف قراءة ما طبع من تلك الفتاوي.
كان كتابه “الحلال والحرام” وهو من بواكير مؤلفاته، العنوان الأبرز في هذا الميدان، فقد تلقته الأمة بالقبول، ولم يخل من النقد، وتلك لازمة في كتب الفقه المتحررة من سطوة التقليد، كما لم يسلم من التحامل حتى سماه بعض القوم “الحلال والحلال”، وحتى رفضت فرنسا العلمانية دخوله منتصف التسعينيات، فاجتمع له البغض من الطرفين، وهو ما يزكيه فقها وسطا، ومع ذلك فلا أذكر موضوعا في الكتاب إلا وقد أصبح عماد الفتوى اليوم في بابه، من مختلف المدارس والأقطار بصيغة أو بأخرى تطابقه أو تقاربه أو تحوم حوله، وفي ذلك استشراف مستقبل فقهي هدى الله له الشيخ يوسف.
والحقيقة أن هذا الرجل لم يكن عالم الأمة فحسب، بل كان مجدد الدين الذي قام بالواجب، فوفقه الله عز وجل أن جعله من أولئك المعنيين المجسدين لقول نبيه صلى الله عليه وسلم: “يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ” أو تأويل الجاهلين، وفي الروايتين كان القرضاوي منقح الدين من تأويل الغالين توضيحا ليسر الدين وإرجاعا لجادته، وردا على الجاهلين بحقائقه ومقاصده وأصوله المعتبرة وفروعه السهلة الميسرة.
لم يكتف الأزهري الذكي بتحصيل العلم الشرعي وتبيينه -وما تلك بالوظيفة الهينة- بل نافح عنه بقلم سيال، له من براعة الكاتب وإشراقة الأديب المتدفق، وروح الداعية المشفق، وشفافية الصوفي المتنور، ودقة العالم الأصولي المحقق، وصور الشاعر المرهف، وبيانية الخطيب المفوه، وصدق المشاعر ودقة التعابير وجودة الألفاظ ما أعجز البلغاء وأخرس الحساد.
كان سلفياً من غير حرفية الظاهرية، وفقيهاً من غير جمود، وصوفياً من غير شعوذة، ومسلماً واعياً بالعصر داعياً إلى الله على بصيرة.
خالط الرجل الحكام فما دلس، وحاور العلمانيين فما خنس، وواجه الطغاة فما ارتكس، ورد عن الدين عاديات الجميع فما ضعف ولا جبن ولا انتكس.
كان محاوراً في غير جدل مرذول، يجادل بالتي هي أحسن، ويرد الحجة بالحجة، يسعفه عقل ذكي ووعي جلي ولسان حفي وعلم حاضر زكي، فتتداعى الحجج كالأتي الهادر، وينفعل بالحقيقة في صدق من لا يتلجلج، وقوة من لا يتردد، وبيان من لا يجمجم، دون إسفاف ولا انفعال.
لقد أفاد في كل شيء وأجاد، وكان صاحب العلم الشرعي كما كان صاحب الموقف الشرعي، وتلك ثنائية عزت في زمن انزوى فيه علماء الدين أو جبنوا أو داهنوا.
اختلط بالجميع حكاما ووجهاء وساسة وعلماء ومفكرين، يوافقهم أو يختلف معهم، فما جاملهم في حق ولا تراجع لهم عن مبدأ، فلم يكن ممن تغريه المواقع ولا ممن يفتتن بالبهرج والمظاهر، وظلت علاقته بالجميع في إطارها المحدد رعيا للحقوق وأداء للواجب وقياما بالحق.
أعزي الأمة جمعاء في مجدد دينها وحامل لواء الدفاع عن قضاياها، أعزي العلماء العاملين حاملي راية الإصلاح المتمسكين بهدي النبوة، أعزي العلم والفقه وما يترب على ذلك من بيان ومواقف، ثم قبلُ أعزي المستضعفين، فقد كان ناطقا باسمهم ومنافحا عنهم وخاصة أهلنا في فلسطين الذين أشعر أنهم أيتام بموته فقدوا أبا حانيا وكهفا حاميا فما كان يداهن في القضية ولا يرتضي فيها بموقف دون الأعلى والأوضح والأبين، وأذكر أنه لما منع من زيارة أميركا ثم بريطانيا لتأييده عمليات المقاومة في فلسطين قال والله لئن منعوا علي الخروج من بيتي، فلن أسكت ولن أداهن ولن أتراجع.
رحم الله الشيخ يوسف وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا..
سلام عليه في العلماء العاملين..
سلام عليه في الصالحين..
ثبته الله بالقول الثابت وأجزل له المثوبة وكتب لأسرته وتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان..
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
____________________
المصدر: “الجزيرة نت”.