كم تبلغ مساحة الاختيار في حياة الإنسان؟ وهل يحب الإنسان أن تتوافر لديه خيارات عدة، أم يعيش في مسارات حددت له من قبل السابقين أو المجتمع أو الكبراء؟ وهل يتحمل نتيجة اختياراته أم يتملص منها؟ أسئلة عديدة تتعلق بالاختيار الإنساني للدين والزواج والعمل والأصدقاء ومن يمثلوننا ومن نتخذهم قدوة ومن نستقي منهم معلوماتنا، وما الأسس التي نختار بناء عليها؟ خلق الله تعالى الإنسان حراً مريداً مختاراً يختار بين بدائل متعددة.
قال الله تعالى مبيناً قدرة الإنسان على الاختيار بين أن يكون عبداً لله أو عبداً لغيره سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت: 17)، عذبهم الله تعالى بالصاعقة بسبب اختيارهم السيئ.
ومن مجالات الاختيار في حياة الإنسان اختيار الزوجين بعضهما بعضاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأسباب التي يختار لأجلها الناس شريكة المستقبل فقال: “تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ” (صحيح البخاري)، وللاختيارات السيئة تأثيراتها الضارة على مستقبل الحياة، فمن اختار امرأة للزواج بسبب جمالها فقط عاقبه الله تعالى بالغيرة القاتلة للسعادة المفسدة للحياة الزوجية، ومن اختار امرأة للزواج بسبب نسبها فقط عاقبه الله تعالى بالذل؛ حيث أراد أن يرتفع على أكتاف أهل زوجته، ومن اختار امرأة لمالها فقط ابتلاه الله تعالى بأن تحرمه منه حين يقسو عليها أو ينظر لغيرها فتكون هذه اللحظات أشد عليه من كل حرمان، ومن اختار امرأة لدينها فقط أرضاه الله تعالى بما تتمتع من جمال مهما كان هذا القدر، ورزقه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وسخر له من يعينه على أمر دينه ودنياه.
ومما يذكر في شأن تأثير الاختيارات الخاطئة من الزوج لزوجته أن الحسن البصري مر على بائع ثياب، فوجده يمدح ثيابه بما ليس فيها من مميزات، ويحلف على صدقه، فتركه ولم يشتر منه، ثم مر عليه بعد مدة من الزمان فوجده يعرض بضاعته دون مدح بما ليس فيها ولا حلف، فسأله عن سر التغير؟ قال البائع: كانت لي زوجة، إن جئتها بكثير رأته قليلاً، وإن جئتها بقليل احتقرته، ثم توفاها الله فتزوجت امرأة أخرى ذات دين وخلق تقول لي في كل صباح: اتق الله فينا، ولا تطعمنا من حرام، إن جئتنا بقليل كثرناه، وإن لم تأتنا بشيء أعناك بمغزلنا.
ضعف الرجل أمام ضغط زوجته وتطلعها فاختار أقصر طريق للربح السريع الذي تمحق بركته.
ثم أبدله الله تعالى خيراً من الأولى، فكان خير عون له على التزام الصدق والأمانة.
ونفس الشيء بالنسبة للمرأة التي تختار اختياراً خاطئاً؛ إذ تفسد حياتها الدينية والدنيوية وتصاب باضطرابات نفسية عميقة وتبقى نادمة على هذا الاختيار سواء تمكنت من تصحيحه أو عجزت.
أسباب اختيار الملك ليوسف عليه السلام
وفي كتاب الله تعالى بيان لأسباب اختيار يوسف عليه السلام ليتولى مسؤولية ضخمة في وقت صعب، وتبدأ القصة برؤيا للملك عجز من حوله عن تأويلها، وفسرها يوسف عليه السلام، فلما نقل للملك تأويل يوسف استدعاه ليكون كل جهده ورأيه قاصراً على الملك، لماذا وضعه الملك في هذه المكانة الكبيرة؟ ما ظهر من علم يوسف عليه السلام في تأويل الرؤيا، وما ظهر من خلقه عليه السلام، حيث صبر على آلام السجن وتعفف عن ذكر امرأة العزيز وطلب الشهود كل هذه مؤهلات لا بد من توافرها فيمن يتولى أمراً من الأمور العامة.
ولما حاور الملك يوسف عليه السلام ظهرت فضائله العقلية والخلقية، فالمرء مخبوء تحت لسانه، وقد قيل: تكلم حتى أراك، تكلم يوسف عليه السلام كلام أديب حكيم، رأى الملك حسن المنطق وجزالة الرأي لذلك استحق أن يتبوأ عنده أعلى المناصب.
هذه المحاورة تنبهنا على أن الإنسان لا يظهر إلا إذا تكلم، وأننا لا نعلن رأينا في شخص قبل أن نسمع منه مباشرة دون وسائط، وأن القادر على التعبير عما يجول في خاطره قادر على التفكير الصحيح، أما من يعجز عن صياغة الحديث صياغة واضحة مقنعة فكيف يستطيع أن يتولى أمر نفسه، فضلاً عن أمور الآخرين، ولا بد لمن يتولى أمراً عاماً أن يُعطى الصلاحيات التي تؤهله لتنفيذ رؤيته، فإن المكانة تقتضي القدرة والعلم فبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير، وكم من الناس من يرى الخير لكنه عاجز عن اتخاذ القرار أو عاجز عن تنفيذه.
والأمانة تستدعي الحكمة والعلم، الحكمة تجعله يضع الشيء في موضعه، فيعطي بحساب ويمنع لأسباب معقولة وتجعله يحتفظ بهدوئه حين يحاول أعداء النجاح همزه ولمزه أو الافتراء عليه أو إثارة الغبار حول سمعته.
وبالعدالة تصل الحقوق لأهلها، فلا يحول ضعف الإنسان بينه وبين حصوله على حقه ولا تعطي القوة لصاحبها فوق ما يستحق.
علمنا يوسف عليه السلام المؤهلات المطلوبة لمن يشغل منصباً عاماً قال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55)، حفيظ يقوم بحفظ الأموال من السرقة ومن الهدر يعرف الكيفية التي يخزن بها الموارد دون أن تتلف عليم بحاجات الناس وتقديرها التقدير المناسب يعرف الخير من الشر وخير الخيرين وشر الشرين، وإذا اضطر إلى ارتكاب محظور ارتكب أخف الضررين، وعنده من العلم ما يتجنب الوقوع في الأزمات، فإذا وقعت خرج منها بأقل الخسائر، يعرف أحسن الطرق للوصول إلى الخير ويقدم الأهم على المهم.
الأزمة القادمة تستدعي أن يستفيد يوسف عليه السلام من سني الرخاء التي تسبقها بحفظ موارد الدولة والقدرة على إدارة الأمور بدقة وجمع الثروة والحذر من الاحتكار وإعادة توزيعها.
كان يوسف عليه السلام رائداً في علم إدارة الأزمات، وأعطانا مفاتيح للاختيار الصحيح الذي ينجينا من الندم على ضياع الفرص ويجنبنا غرق السفينة.
علمتنا ابنة الرجل الصالح
وفي قصة موسى عليه السلام ما يرشدنا إلى الاختيار الصحيح، فالرجل يملك من النبل ما يجعله وهو المطارد المتعب يقدم يد العون لفتاة لا يعرفها لكنها المروءة التي يحتاج إليها كل مسؤول يخف لنجدة المحتاجين في الوقت الذي نجد من يسد أذنه ويغمض عينه عن تلبية الحاجات الماسة والضرورية نجد موسى عليه السلام مبادراً للمساعدة.
وهو مع ذلك يملك القوة الجسدية التي تحتاجها المهمة الموكلة إليه، وفي ذات الوقت أمين يقوم على حفظ الغنم من السراق والذئاب وتقديم ما تحتاج إليه من الرعاية اللازمة لنموها وتكاثرها، فإذا كنت تخاف على غنمك من الذئاب فاختار الأمين لأن الخائن أشد خطراً من الذئب.
ووصف الفتاة لموسى عليه السلام بالقوة والأمانة ليس سماعاً ولا من خيالها، بل رأت ما يدل على قوته وأمانته، وهذا يدعونا أيضاً إلى التأكد من اختياراتنا، وأن تكون مبنية على أدلة ملموسة.
وقد كان للسلف طريقتهم في الاختيار والقرار، تلك الطريقة المبنية على هدي القرآن والسُّنة، قيل لعمران: إن فلاناً رجل صدق، قال: هل سافرت معه؟ هل بينك وبينه خصومة؟ هل ائتمنته على شيء؟ قال: لا، قال عمران: لم تعرفه، لعلك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد.
كتب طاووس إلى عمر بن عبدالعزيز: إذا أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير.
قالوا: اختيار المرأة قطعة من عقله، وأنا أقول: اختيار المرأة قطعة من دينه، فإذا كان للدين مكانة حقيقية في النفس الإنسانية وزنت الأمور بميزان الشرع وقاست الناس بمقياس الشرع، وإذا كان للدين ظل باهت في القلب كان الاختيار للهوى أو للمصلحة الوقتية.
يتخذ المرء عدة خطوات ليقوم باختيار صحيح:
– الاستفادة من تجارب الآخرين، وهذا لا يعني أبداً أن نسير خلفهم بلا علم ولا هدى.
– التأني حتى تتكشف الأمور، ويكون الاختيار مبنياً على حقائق وليس على أوهام أو إشاعات.
– ترتيب الخيارات المتاحة، وكلما اتسع العقل تعددت الخيارات، وكلما كان المرء قريباً من الله طالباً للحق، لم يضيّق الله تعالى عليه ولم يُلجئه للحرام.
– الاستخارة وطلب التوفيق من الله تعالى سواء كان ما يوفقنا الله تعالى له مما نحب أو غيره.
– الاستشارة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب المشورة ويقبلها إذا قدمت له.
بعض الناس يتعرض لاختيارات بعضها أصعب من بعض، ولعل في ذلك اختباراً لدينه وصلابته، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويجعل له نوراً يمشى به بين الناس.
وآخرون يفضلون أن يسيروا في طرق حددت لهم، فلا رؤية عندهم ولا طاقة على تحمل نتيجة الاختيار، وهؤلاء قد أهدروا ما منحهم الله تعالى من نِعَم، وأضاعوا فرصة التعلم ممن حولهم، وإذا أرادوا أن يستكملوا إنسانيتهم فعليهم بخوض التجربة وطلب التوفيق من الله واستشارة أهل الخبرة والصلاح، عسى أن ينتقلوا من صفوف من يقادون إلى صفوف من يقودون.