إيجابية تستحق الشكر والتقدير، وعملٌ يدل على الإحسان في أجمل معانيه، والإنسانية في أبهى حللِها، كما تستحق الالتفات للاستفادة منها كأفضل ممارسة في هذا المجال، خصوصًا في هذه الأيام التي كثُرتْ فيها البِدع والأخطاء والتجاوزات بحجة أنه لا يصح التقصير ولا ينبغي أن نكون أضحوكة على ألسنة الناس.. إلخ.
لأول مرة أذهب إلى مقبرة الصليبيخات للدفن والعزاء مشاركةً في أجر توديع والدة الأستاذ عبدالرحمن المطوع، نائب المدير العام بالهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، رحمها الله تعالى، ومنذ أول لحظة دخلنا فيها إلى المقبرة الواسعة لفت نظري العديد من الأمور التي تدل على كرم الأحياء ومبلغ احترامهم لأنفسهم ولأمواتهم وحرصهم على حفظ كرامة أهلهم وذويهم الذين تركوا العيش معهم وقدموا على الكريم الرحيم سبحانه.
سعة المقبرة، وترتيب مستوى القبور بحيث تراها كلها على السُّنَّة دون وضع أضرحة أو ألواح أو لوحات كبيرة متفاوتة الحجم أو اللون، التي تراها في أغلب مقابر المسلمين في العديد من الدول للأسف! بل هذه القبور في مقبرة الصليبيخات على مستوى واحد كلها، وبألواح رخامية أو حجرية صغيرة تبيِّن اسم الميت دون أن يتميز بعضها عن بعض أو تكبُر هذه عن تلك، كما أنها موضوعة بحسب صفوفٍ مُرتَّبة تريح النظر وتسمح للمرور بينها بأريحية لتجنُّب الدوس عليها ولسلامةِ التنقُّل بينها وسهولة الوصول إلى أي قبر، وترى طُرق السيارات المتعددة والخاصة؛ من وسط المقبرة وعلى أطرافها، بحيث تبيِّن الإشارات أبواب الدخول والخروج والوصول للمسجد وصالات العزاء وساحات المقبرة.
وذاك مسجد الغانم والخرافي الكبير الجميل الذي يتربَّع في طرف المقبرة من خارجها والواقع في الجهة الشمالية، وإليه تُنقل الجنائز ويتم وضعها في مكانٍ خاصٍ أُعِد لهذا الشأن، بحيث يُصلَّى عليها كلها بعد الصلاة الموقوتة، ومن ثم تُحمل الجنائز للدفن من قِبل أهلها وذويها والمشيعين، وإلى تلك اللحود المُعدَّة مُسبقًا بالترتيب حسب نظام الدفن، ولأنه -عادة- ما تكون هناك أكثر من جنازة؛ فهناك قبور جاهزة، ويتم وضع عمودٍ خشبي صغير على رأسه لوحة مرقومٌ عليها برقمٍ مع ورقةٍ يُكتب عليها اسم الميت، تسهيلًا لوصول المشيعين والمعزِّين إلى الجنازة المقصودة لهم وللسلام على ذويهم.
بالطبع، فإن توفير مياه الشرب المُبرَّدة شيءٌ طبيعي في كل مساجد الكويت، وأما في مسجد الغانم والخرافي المجاور لمقبرة الصليبيخات فهو أمرٌ أكثر وفورًا وتنظيمًا، ويمتد هذا الخير إلى ساحات المقبرة نفسها، حيث تتوفر المياه في “ترامِس” مُثلَّجة، وبهذا يؤمَّن لك هذا الاحتياج المهم جدًا في جوٍّ مثل جو الكويت وفي ساعاتٍ مثل هذه الساعات الحارة والطويلة.
تتوفر في ساحات المقبرة أيضًا صالات استراحة وعزاء سريعة لمن أراد أن يستظل بظلالها ويستريح فيها وتتم تعزيته فيها، وهناك الصالات الأكبر حجمًا والأوسع أفقًا والأكثر نظامًا، حيث أُعِدَّت خصيصًا للعزاء، وفيها وُضِعت اللوحات الإرشادية والتعريفية بأنواعها، فلوحة ضوئية كُتب عليها اسم الميت، وفي مكانها تم وضع الكراسي، وبطول المكان المُخصَّص تم وضع أعمدة أفقية لينتظم فيها الناس الحاضرين للعزاء والسلام على ذوي الميت، حيث يصطفُّ أهل الميت في أول المكان، بينما يمر عليهم الناس مرورًا سريعًا في طابور متحرك، ويسلم عليهم الأول فالأول، وهكذا حتى ينتهي الناس ابتداء بدخولهم من بوابة الصالة، ومرورًا بانتظامهم في طابور العزاء، وانتهاء بخروجهم من الباب بعد السلام، تذكِّرهم لوحات إرشادية على أعمدة الصالة بأن يلتزموا بالطابور وعدم المخالفة أو المزاحمة حتى لا ينقص الأجر، وحتى يتم الأمر براحةٍ وهدوء وعدم إزعاج أو إتعاب للآخرين.
هذا الكرم الذي نراه جزءًا لا يتجزَّأ من كرم أهل الكويت يدعو حقًا للاحترام والتقدير، ويدل فعلًا على احترامهم لأمواتهم والحرص على كرامتِهم، كما أنه دليل على التمسك الصحيح بما ورد عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ سواء في الصلاة على الميت، أو دفنه، أو كيفية تسوية القبر لحدًا وسطحًا، مضمونًا وشكلًا، وسواء في التعزية التي لا تكلِّف أهل الميت فتح بيوت تعزية ولأيام متوالية وموائد مستديرة، بل العزاء في المقبرة بالسلام على ساحاتها أو في الصالات المُخصَّصة، ومن ثم ترك ذوي الميت يعالجون أشغالهم مع عائلاتهم بأنفسهم دون الناس، وكذلك ذهاب الناس والأصحاب والأصدقاء لمتابعة شؤون حياتهم بعد أن أدوا واجب التعزية.
لقد أُعجبت بهذا التنظيم والترتيب كما أُعجِب به سواي، وكان آخر ما لفت نظري ونحن في باب الخروج من المقبرة تعيين مكان خاص فيها لدفن الأطفال، وكم أتمنى أن تُنقل مثل هذه الأعمال الطيبة والممارسات الجميلة والترتيب المتكامل لباقي المجتمعات.. فشكرًا لأهل الكويت كرماء ومُكرَّمين، ورحمهم الله أحياء وميتين.
_________________________
(*) كاتب وباحث يمني.