المسلم الذي يعيش في وسط أغلبية من غير المسلمين، ويرتضي العيش بقوانين أوروبا، لا بد له أن ينتبه إلى الوصية؛ لأن بها يستطيع أن يحافظ على ماله وولده وهويته، ويجمع بين الانتماء للدين اعتقاداً، والانتماء للوطن انتساباً، وهدف هذا المقال أن يكتب المسلم الأوروبي وصيته ويوثقها بما يسمح به القانون.
أولاً مفهوم الوصية ودليلها:
أ- مفهوم الوصية:
الوصية تصرف مالي بالتبرع في حدود الثلث مضاف لما بعد الموت، ومشروعيتها محل إجماع من حيث المبدأ، لقوله تعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء: 11)، كما أن الوصية منحة من الله تعالى لعباده قبل وفاتهم؛ ليتداركوا ما فاتهم من أداء الحقوق والواجبات، والحصول على الثواب والأجر المستمر بعد موتهم من خلال الوصية لوجوه الخير؛ وكذلك تدارك ما يمنع الوالدين والأقربين من التركة بسبب خلاف في الدين، أو حجب حرمان.
ب- دليل الوصية من القرآن والسُّنة:
جاء ذكر الوصية بمشتقاتها -الفعل الماضي، والمضارع، واسم الفاعل، والمصدر- ما يربو عن ثلاثين مرة في كتاب الله تعالى، وذلك لفتاً للأنظار لأهميتها، ومن أشهر الآيات في ذلك قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)، التي جاءت في وسط سورة “البقرة” وقبل آيات فريضة صوم رمضان، وعلى القول بأن الآية ليست منسوخة يلحظ القارئ الكريم تعبير القرآن في فرضية الوصية بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ)، كما في افتراض الصوم، وكما سبق في القصاص في القتلى.
وروى البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: “ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ”.
لذا، روى أن ابن عمر راوي الحديث كان يجدد وصيته كل يومين.
وروي أن الإمام الشافعي كتب وصيته وهو في السابعة عشرة من عمره.
ثانياً: المقصد من الوصية:
أ- قد يقصّر الإنسان أو يغفل في حياته عن البذل والإنفاق في أعمال الخير، ولذلك شرع الله تعالى له برحمته أن يوصي، وبذلك يمكن للإنسان أن يتدارك شيئاً مما فوّته على نفسه من الحسنات في حياته، فله أن يوصي للفقراء ببعض ماله، أو لأقاربه وأرحامه غير الوارثين، أو لبناء مسجد وغير ذلك من وجوه الخير.
ب- قد يكون قصد الميت من الوصية مكافأة من أحسن إليه أيضاً.
جـ- وهو خاص بمسلمي أوروبا، وهو الحفاظ على الحقوق الشرعية التي تتعلق بالمال والولد والهوية.
دور الوصية في الحفاظ على المال:
تختلف نظرة القانون في ألمانيا فيما يتعلق بالميراث عن منظور الإسلام.
وفي الوقت نفسه، أجاز القانون الألماني لكل إنسان يعيش في ألمانيا أن يكتب وصية بما يريد ثم تنفذ بعد موته.
وعلى سبيل المثال؛ لو مات وترك زوجة، وابناً، وبنتا، وأماً؛ فسوف يكون تقسيم الميراث حسب القانون الألماني بدون الوصية أن الزوجة تستحوذ على معظم التركة وتأخذ ما يزيد على الابن والبنت، ومن الممكن أن تحرم الأم من الميراث.
ومثال آخر: لو مات مسلم أوروبي وله تركة وليس له عائلة تعيش معه في ألمانيا بل ربما تعيش في بلد عربي سيذهب كل المال للمدينة والبلدية القاطن بها.
وفي حال كتابة الوصية وتوثيقها يمكن تقسيم المال بما يوافق نظام الميراث في الإسلام.
دور الوصية في الحفاظ على الولد:
فلو مات الوالدان -المسلم الأوروبي- ولهما أولاد في سن الطفولة ولا توجد عائلة من أهل المتوفى تعيش في أوروبا، من الذي سيقوم على شأن الأطفال ورعايتهم، ويتعهدهم في دينهم وثقافتهم؟
بدون الوصية يمكن أن تتولى أسرة من غير المسلمين أمر الأطفال عن طريق التبني، أو بما ينظمه القانون في هذا الشأن، ولا يخفى على أحد أنه في هذه الحالة أن دين الأطفال وعقيدتهم معرض للتغيير.
لكن بالوصية يستطيع المسلم أن يوصي في أطفاله بما يشاء مما هو في صالح دينهم ومستقبلهم.
ولنا في الخليل إبراهيم عليه السلام القدوة في وصيته لولده من بعده عليهم السلام: كما قال تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {132} أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة).
دور الوصية في الحفاظ على الهوية الإسلامية:
مثل أمور ما بعد الموت كالجنازة، وتغسيل الميت، وتكفينه، ودفنه في مقابر المسلمين.
فمن الممكن أن يكون المسلم الأوروبي متزوجاً من امرأة من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية، أو قد يسلم واحد من غير المسلمين ولا يعلن إسلامه، وبعد الموت تقوم الزوجة غير المسلمة أو العائلة من غير المسلمين بالتغسيل والتكفين والدفن على غير الطريقة الإسلامية أو بحرق الجثمان، وحدثت هذه الحالات مراراً.
أعرف نصرانياً هداه الله للإسلام وتزوج من امرأة مسلمة وبقي معها مدة من الزمن ثم انفصلا، وظل الرجل على الإسلام إلى أن بلغ مرحلة متقدمة من العمر، وكنت قد زرته قبل الوفاة أكثر من مرة.
وبعد الوفاة حصلت المفاجأة؛ حيث إن العائلة التي ينتمي إليها أرادت حرق الجثمان نظراً لارتفاع أسعار الدفن، وبعد تطوع أحد الأفراد بنفقات الدفن أصرت العائلة على الدفن على الطريقة النصرانية! وبالفعل تمت الجنازة والدفن في الكنيسة.
ولو كتب -رحمه الله- وصيته، وبيَّن فيها أنه مسلم وأن ما بعد الموت ينبغي أن تكون الجنازة وما بعدها حتى الدفن والعزاء بما يتوافق والدين الإسلامي لنفذت وصيته بالقانون.
لذا، فالوصية بالنسبة للمسلم الأوروبي من الأهمية بمكان، وقد تصل إلى الوجوب.
ثالثاً: حكم الوصية وضابطها:
تعتري الوصية الأحكام التكليفية كالتالي:
1- قد تكون الوصية واجبة: وذلك في كل حق واجب على الموصي؛ مثل أن تكون عند المرء زكاة لا يعلم بها إلا هو، ولا يتمكن من إخراجها في الوقت الحاضر، أو يكون عليه دين لأحد.
2- قد تكون الوصية مستحبة؛ كالوصية بإنفاق ثلث ماله أو أقل منه في وجوه البر والخير، وما أحوج المراكز الإسلامية في أوروبا إلى بر أولادها بعد موتهم.
3- قد تكون الوصية مكروهة أو محرمة؛ وذلك إذا أوصى لجهة غير مباحة، أو الوصية بأكثر من الثلث.
ضابط الوصية
أن تكون في ثلث ماله أو أقل، ولا يجوز بأكثر منه، روى البخاري في صحيحه: عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِي مَالٌ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ، يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ».
وقد أوصى أبو بكر بخُمس ماله، وقال: رضيت بما رضي الله به لنفسه الخمس.
ما يتعلق بالوصية من أحكام:
1- الوصية والميراث تشكلان منظومة متكاملة للتصرفات التي تتعلق بأموال الإنسان بعد موته، وتحققان مصالح عظيمة للأسرة والمجتمع، وتساعدان على إعادة توزيع الثروة بما يحقق الخير للمجتمع.
2- الوصية الواجبة في حدود الثلث على من يحضره الموت لمن لا يرث من الوالدين والأقربين الذين لا يرثون بسبب اختلاف الدين، أو بسبب حجب الحرمان، وذلك مثل: حفيد الميت الذي توفي والده أو والدته في حياة جده أو جدته، وفي هذه الحالة يعطى من الوصية لهؤلاء المذكورين نسبة بمقدار حصصهم فيما لو كانوا يرثون في حدود الثلث، وإذا كانت حصتهم أقل من الثلث فيكتفى بذلك.
3- وصية المسلم لغير المسلم والعكس جائزة شرعاً ولا حرج فيها ما لم يعلم يقيناً أنها تكون عوناً على ما فيه عدوان وضرر فحينئذٍ لا تجوز، وقد أوصت صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم لذي قرابة لها من اليهود.
4- ترجيح الوصية للوارث إن أجازها بقية الورثة؛ لأن الآية محكمة ولم تُنسخ على الأرجح، ولا يتعارض هذا مع حديث: “لا وصية لوارث”، وذلك لما تفيده زيادة “إلا أن يشاء الورثة” الواردة في بعض الروايات؛ ولأن الورثة أصحاب حق فإن تنازلوا أو تراضوا فلا حرج في ذلك وتكون زيادة “إلا أن يشاء الورثة”، مخصصة لحديث “لا وصية لوارث”، وهو رأي الجمهور وإعمال الدليل خير من إهماله.
5- تفعيل التبرع بالأعضاء بعد الموت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك، عن طريق الوصية، وهذا مما أجازته المجامع الفقهية والمؤسسات الإفتائية المعاصرة مشروط بألا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، ويكون ذلك صدقة جارية للميت بعد الموت يرجو ثوابها.
6- هذه الأنصبة والأحكام الشرعية لا يلزم منه رفض القوانين الأوروبية، وإنما هو بيان الأحكام، وأنه يمكن للمسلم من خلال الوصية تنفيذ هذه الأحكام ليوازن المسلم بين الالتزام بدينه واحترام القوانين ونظم الدول الأوروبية.
ختاماً، حَريّ بكل مسلم يعيش في أوروبا خاصة ألا تنسيه المادية الجارفة دينَه وهويتَه وغايتَه التي أوجده الله تعالى من أجلها، وألا تشغله الحياة الدنيا بكثرة متطلباتها وأشغالها عن الدار الآخرة، وتنظيم معاملاته الحياتية وفق منهج الإسلام ليبقى له الأثر النافع بعد موته.
______________________________
(*) أستاذ جامعي.