توسطت لدى عائلة طيبة لتزويج ابنتهم من شاب على خلق، وفي مركز اجتماعي مرموق، ومن بيت أصيل، لكني فوجئت بعد شهور من الانتظار بالرفض، دون مقابلة الشاب، أو الاستماع إليه، أو السؤال عنه.
انتابتني الحيرة، والدهشة، وعلامات استفهام عدة تدور في ذهني، ونحن في مجتمع يشكو التأخر في سن الزواج، وارتفاع نسب العنوسة، لكن أسرة العروس بددت حيرتي بإرجاع قرار الرفض إلى «الجاموفوبيا».
و«الجاموفوبيا» تعني «رهاب الزواج»؛ أي التخوف منه والتهرب منه بأي طريقة، وهو اضطراب نفسي ربما بدأ يشيع بين الفتيات في عدد من المجتمعات العربية، وسط دعوات للعزوف، والتمسك بالاستقلالية، والتخلص من التبعية للرجال.
ويبدو أن التيارات النسوية وحركات ما يسمى بـ«تحرر المرأة» و«حقوق المرأة» قد نجحت إلى حد ما في تبديد بعض من قدسية الزواج، ووضعه محل جدل واشمئزاز وخلاف.
لست أبالغ حين أقول: إن تبغيض المرأة في الزواج، والتحريض المتواصل على الرجال في وسائل الإعلام، وتحفيز مشاعر الندية لدى المرأة، غرس لدى الأجيال الجديدة مشاعر سلبية تجاه الزواج، وتكليفاته، وواجباته.
نعم هناك أسباب نفسية وراء «الجاموفوبيا»، منها أنواع الاكتئاب المختلفة، وعدم الثقة بالنفس، وطلاق الوالدين في الطفولة، أو سوء المعاملة بينهما، والتأثر بتجربة زواج فاشل، أو التعرض لخيانة ما من شريك.
وتتوسع دائرة أسباب الرهاب من الزواج، لتشمل التعلق بالأهل والخوف من الابتعاد عنهم، وعدم الاستعداد النفسي، وضعف الثقة بالقدرة الجنسية، إضافة إلى أن الشخصية المترددة غالباً ما تخشى الإقدام على خطوات مصيرية في حياتها، مثل قرار الزواج.
لكني كحواء، أرجح أسباباً أخرى فرضتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على عقل وأجندة المرأة العربية والمسلمة، التي باتت في خطر كبير لا سيما مع ترويج أفكار هدامة مثل الشذوذ، والجنس الآمن، والاحتفاء بالطلاق، والعنوسة، ومنح عمل المرأة أفضلية مقارنة بالزواج.
يبرز من تلك الأسباب الرغبة في عدم تحمل المسؤولية، والتملص من أي حقوق وواجبات، لا سيما مع تصوير الزواج على أنه عبء اجتماعي، وهم ثقيل، فضلاً عن الخشية من تحمل مسؤولية إنجاب وتربية الأطفال، والوفاء بمتطلبات وحقوق الزوج.
قد يتفاقم الأمر لدى الفتيات مع توالي موجات التحرر المزعوم، وطوفان «السوشيال ميديا» الذي يرسخ في الأذهان مشاعر التنفير من الزواج، وتسليط الضوء على قضايا القتل والانتقام والخيانة بين الأزواج، وكأنه لا توجد أُسر سعيدة تنهل من بحر المودة والحب والجنس الحلال.
وهناك من تنساق وراء تلك الحملات، دون وعي أو إدراك لقيمة وأهداف الزواج، وأهمية الاستعفاف، وسمو المودة والرحمة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم 21)، وعظمة الأمومة، وبهجة الأطفال.
لكن الأخطر أن هناك من تريد أن تظل بلا مسؤولية، بلا واجبات، هي فقط ترفع شعار «أريد أن أكون حرة»، مع الوفاء بكافة متطلباتها في بيت أبيها، وتلبية رغباتها وتحقيق أحلامها دون قيود أو رقابة من أحد، متأثرة بنجمات الفن وعالم «البلوجر» و«اليوتيوبر» و«الأنفلونسر».
الأمر خطير، و«الجاموفوبيا» تطرق بقوة أبواب المرأة العربية والمسلمة، مع اختلاق حجج غير منطقية، ولا تمس للحقيقة بصلة، مع تمدد واضح لحملات الكراهية المفتعلة بين المرأة والرجل، على غرار حملة «الست مش ملزمة»، التي أثارت صخباً واسعاً في الشارع المصري وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، العام الماضي.
الحكمة تقول: «فساد الأمر أن تتردد»، والهروب أو الانسحاب لا يحل المشكلة، وإنما يجعلها تتفاقم، وأولى بفتياتنا الإقدام على العفاف، لا رفض الزواج أو التملص منه، بل السعي لتكوين أسرة مسلمة سعيدة، تكون هي عمودها الأساسي، وفي الوقت ذاته، تكون طريقها إلى ابتغاء مرضات الله سبحانه.
يمكن للمرأة ترتيب أولوياتها، والتوفيق فيما بين العمل والزواج، أو تحصيل العلم والزواج، أو تقديم خطوة عن أخرى، لكن من المفسدة أن تحجم عن العفاف الشرعي، والحب الطاهر، والزوج الصالح، والبيت المسلم.
علاج «الجاموفوبيا» يبدأ بإدراك المشكلة ذاتها، والوعي بمخاطرها، وعدم الاستسلام لمبرراتها، وعدم التعميم، أو التأثر بالتجارب الفاشلة، بل التعلم منها، والتفكير بشكل إيجابي، وتعزيز الثقة بالنفس، واستشارة المختصين وأهل العلم والطب في ذلك.
وعلى الأسر المسلمة أن تحتوي بناتها، وتقدم الدعم والمساندة لهن، ومنحهن حرية التحدث والبوح بجميع مشاعرهن الداخلية، وتفهم مخاوفهن حال وجودها، والتعامل معهن بحكمة وفطنة، مع تبيان وتذكير بآثار عدم الزواج، والتحبيب في مراده وفضله وقيمته، وعظمة الأمومة وأجرها عند الله تعالى.