من المعلوم أن العقل هو آلة الإدراك والتمييز التي وهبها الله تعالى للبشر، وفضلهم بها على كثير مما خلق، والناظر في آيات القرآن العظيم يجد أن الله تعالى حثنا على استخدامه وبنائه من خلال التأمل والتدبر والتفكر فقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران)، وأرشدنا إلى أن من يغفل إعمال العقل يدنو إلى مرتبة أقل من مرتبة الحيوان؛ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف : 179).
وفي السُّنة النبوية المطهرة، أكد النبي صلى الله عليه وسلم دائماً أن العقل هو مناط التكليف، وأن غير العاقل معفي من الحساب ومرفوع عنه القلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب» (أخرجه أحمد).
وقوله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه بن عباس رضي الله عنهما، لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (أخرجه مسلم)، وفسرها الإمام النووي بأن الحلم هو العقل والأناة هي التثبت وترك العجلة.
وكما حث ديننا الكريم على بناء العقل وأهمية إعماله، امتلأت مباحث التربية بنظريات تثبت أن البناء العقلي للإنسان من الأمور المهمة التي يجب الاهتمام بها منذ الصغر، حيث تؤثر بشكل كبير على شخصيته ونموه العقلي والنفسي، مثل نظرية النمو والنظرية الاجتماعية والنظرية السلوكية، وأهم تلك النظريات ارتباطاً بالبناء العقلي هي النظرية البنائية؛ حيث تركز على دور البناء العقلي في تطوير شخصية الطفل، وتشمل العديد من المفاهيم مثل النمو اللغوي والذاكرة والتفكير والاهتمام والتعلم.
ومن أهم الركائز الأساسية التي تشملها النظرية البنائية الاهتمام بتنويع الأنشطة التعليمية في بيئة الطفل، وتحفيز الطفل على التعلم والاكتشاف والتجربة، وفي زمن تغيرت فيه أساليب تعليم الأطفال وأصبحت تعتمد بشكل كبير على استخدام التكنولوجيا، ومع بزوغ شمس الذكاء الاصطناعي وتشعبها في كل المجالات، أصبحنا نتساءل: كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتعزيز البناء العقلي للطفل وتعليمه بطريقة فعالة ومناسبة؟
يشهد العالم في الوقت الحاضر تطوراً متسارعاً وتطبيقاً متزايداً لأنظمة الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، والذكاء الاصطناعي هو استخدام الحواسيب والروبوتات الذكية لحل المشكلات وتنفيذ المهام، وقد ظهر في السنوات الأخيرة كأحد الحلول العصرية التي يمكن استخدامها في تحسين التعليم والتعلم.
واستخدام التطبيقات التربوية للذكاء الاصطناعي له عدد كبير من الفوائد، فمن الكتب المدرسية عبر الإنترنت إلى المحاضرات عن بُعد، بلغت التطورات في تكنولوجيا التعليم مبلغاً لم تشهده من قبل، واليوم يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً أساسياً في مساعدة الطلاب والمعلمين على تحسين نظم التعلم وطرق التدريس كما يلي:
أولاً: تخصيص التعليم لكل طفل:
يعمل الذكاء الاصطناعي على تخصيص التعليم وفقًا لاحتياجات كل طفل، فيمكن للتطبيق التعرف على الاحتياجات الفردية للأطفال وتخصيص الموارد التعليمية والأساليب الأكثر فعالية لتلبية احتياجاتهم الفردية.
ثانياً: تحسين المراقبة والتقييم:
يعمل الذكاء الاصطناعي على مراقبة تقدم الأطفال وتوفير تقييم دقيق لمهاراتهم وإنجازاتهم، مما يتيح للمعلمين تحديد المناطق التي يحتاج فيها الأطفال إلى مزيد من الدعم والتوجيه والمساعدة على رفع المستوى الذهني.
ثالثاً: توفير المواد التعليمية الملائمة:
يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم مواد تعليمية ملائمة للأطفال، كما يمكن استخدام البرامج التعليمية الذكية لتوفير مصادر تعليمية ملائمة وفعالة بشكل أكبر في فروع المعرفة المختلفة.
رابعاً: تحسين الإدارة التعليمية:
يمكن للذكاء الاصطناعي توفير البيانات والتحليلات اللازمة لإدارة المؤسسة التعليمية بشكل أفضل، ويمكن استخدام البيانات لتحسين التخطيط الإستراتيجي للمؤسسة، كما أن الروبوتات المتخصصة يمكنها استكمال دور المعلمين ذوي الخبرة في تقديم الدروس المتخصصة والحصص الإضافية لتقوية وتنمية مهارات الطلاب، وتستطيع هذه التقنية أن تحل مشكلات قلة المعلمين الأكفاء في بعض المجالات.
خامساً: توفير تجربة تعليمية متكاملة:
يمكن للذكاء الاصطناعي توفير تجربة تعليمية متكاملة للأطفال من خلال تقديم مواد تعليمية متنوعة وفعالة كعروض الواقع الافتراضي والزيارات المتحفية ثلاثية الأبعاد وغيرها.
سادساً: توفير الدعم الفني:
يمكن للذكاء الاصطناعي توفير الدعم الفني التكنولوجي والمعلوماتي للمعلمين والأطفال في الوقت الذي يحتاجونه، كما يساهم بالإضافة الى النقل وتوفير المواد والمناهج التعليمية في الإجابة عن الاستفسارات وتقليل وقت البحث عن الأجوبة.
سابعاً: تصميم الألعاب التعليمية:
يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تصميم ألعاب تعليمية ممتعة ومناسبة للأطفال، مما يشجعهم على التعلم بشكل مستمر ومن دون إحساس بالملل.
ومن المهم التأكيد على أن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون فعالة في تعليم الأطفال، وخصوصاً في المواضيع التي تتطلب التعلم الذاتي، مثل تعلم اللغة والرياضيات، ومع ذلك، فإن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي إلى تأثير سلبي على بناء عقل الطفل.
ما التأثيرات السلبية لفرط استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على البناء العقلي للطفل؟
يلغي استخدام الذكاء الاصطناعي الحاجة إلى التدريس وجهًا لوجه، حيث يمكن للمتعلمين اكتساب المعرفة بشكل مستقل عن الزمان والمكان، نتيجة هذا التعلم المستقل هي تقليل تفاعل الأطفال مع البيئة الخارجية، حيث يمكن للأطفال الآن التفاعل مع الروبوتات والحواسيب بدلاً من الأشخاص الحقيقيين.
ومن جهة أخرى، قد تؤدي التكنولوجيا إلى تقليل القدرة على التركيز والانتباه، حيث يمكن للأطفال الانتقال بسهولة بين العديد من الأنشطة المختلفة دون التركيز بشكل كافٍ على أي منها، وهذا يعني أن الأطفال قد يصعب عليهم التركيز على الأنشطة التعليمية الأساسية في المدرسة التي تتطلب التركيز والانتباه.
كيف نصوغ العلاقة بين أطفالنا والذكاء الاصطناعي؟
كآباء، من المهم إقامة علاقة إيجابية بين أطفالنا وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حتى نحميهم من السلبيات التي ذكرناها سابقاً، لذلك فيما يلي 10 خطوات تساعدك كمربٍّ في صياغة تلك العلاقة:
1- وضع الحدود: وضع قواعد وإرشادات واضحة لاستخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الحدود الزمنية والمحتوى المناسب.
2- كن قدوة يحتذى بها: قدوة لعادات التكنولوجيا الصحية عن طريق الحد من الوقت الذي تقضيه أمام الشاشة والانخراط في أنشطة أخرى مع أطفالك.
3- شجع الإبداع: شجع أطفالك على استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق إبداعية، واستخدامه بشكل مكمل لإبداعاتهم وليس صانعاً لها، مثل إنشاء فن رقمي أو موسيقى.
4- استخدام التكنولوجيا كأداة: التأكيد على الاستخدامات العملية للتكنولوجيا، مثل البحث والاتصال.
5- مراقبة الاستخدام: راقب استخدام أطفالك للتكنولوجيا وتدخل إذا لزم الأمر.
6- تشجيع النشاط البدني: شجع أطفالك على موازنة استخدامهم للتكنولوجيا مع النشاط البدني واللعب في الهواء الطلق، والتأكيد على استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الخيال والدعم التقني والإبداعي فقط.
7- عزز الروابط الاجتماعية: شجع أطفالك على استخدام التكنولوجيا للتواصل مع الأصدقاء والعائلة، ولكن أكد أيضاً أهمية التفاعلات وجهاً لوجه.
8- أكد المواطنة الرقمية: علِّم أطفالك السلوك المسؤول عبر الإنترنت، بما في ذلك التسلط عبر الإنترنت والخصوصية عبر الإنترنت، وحقوق الملكية الفكرية.
9- ابق على اطلاع: ابق على اطلاع بأحدث اتجاهات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والمخاطر المحتملة.
10- تمتع بتواصل مفتوح: شجع أطفالك على التحدث معك حول استخدامهم للتكنولوجيا وأي مخاوف قد تكون لديهم.
باتباع هذه الخطوات، يمكن للمربي المساعدة في إقامة علاقة إيجابية بين الأطفال والتكنولوجيا، وتعزيز العادات الصحية والمواطنة الرقمية المسؤولة.