(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).
مسؤولية جسيمة تقع على عاتق الآباء والأمهات تجاه أبنائهم في مواجهة التحديات والمستجدات العالمية بعد أن أصبح العالم قرية واحدة، وتداخلت المؤثرات الخارجية والمجتمعية في تشكيل وعي الأبناء، وتوجيه سلوكياتهم، ووجهاتهم وهوياتهم وثقافتهم، بل وأحلامهم المستقبلية بشكل مباشر.
الأسرة القوية أساس المجتمع السليم
ولخطورة الدور الذي تمارسه الأسرة في إنتاج لبنات بناء الأمة، فقد أولاها الإسلام اهتماماً يفوق اهتمامه ببناء الجيوش المنوط بها حماية المجتمع ككل، وذلك لأنه لا جيوش ولا سعي بغير النتاج الأسري السليم.
فكان الزواج في كتاب الله آية من آياته سبحانه؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، وكانت كلمة الرجل بقبول الزواج «ميثاقاً غليظاً»، ومنذ اللحظة الأولى للعقد يصير لزاماً على رب الأسرة الوليدة أن يكون حامياً لها من أخطر ما يواجهها وهو السقوط في جهنم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم: 6).
وقد يختلط الأمر على البعض فيحسب أن توفير أفضل الملابس وأفضل الطعام وأفضل السكن هو المقصود من العملية التربوية والرعاية، فتغادر الأم بيتها للعمل بحجة تحسين الدخل تاركة خلفها صغاراً يحتاجون لكل اهتماماتها، وينشغل الأب بتحصيل لقمة العيش غير منتبه أن وجوده لبعض الوقت أهم بمراحل في فترة الطفولة الأولى من توفير المال مع وجود تحذير نبوي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبدالله بن عمر: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. والرجل راع على أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده».
فيضيعان من يعولان وهما يحسبان أنهما يقومان بواجباتهما حين يتركاهم نهبة لوسائل التواصل الاجتماعي دون رقابة أو توجيه أو أساس عقيدي يحميهم من السقوط في براثن أفكار مستوردة.
فالتربية الصحيحة أساسها رعاية العقل بما يحويه من أفكار، والوجدان بما يحويه من معتقدات، والسلوك بما يحويه من عبادات وحركة في الأرض تبني أو تهدم.
ولن يتأتى ذلك إلا من خلال أسرة مترابطة متحابة صاحبة رسالة ووعي وإدراك لكامل مهمتها، يقوم كل راع فيها بمسؤوليته كاملة، وتتضاعف تلك المسؤولية حين تمر الأمة بمنعطفات تاريخية تحتاج فيها لجهد كافة أبنائها خاصة من الشباب الذين تعتمد على سواعدهم وأفكارهم وعقيدتهم ومدى ارتباطهم بالدين والهوية وتمسكهم بهما.
فريضة الآباء والأمهات
وبما أن الأمة اليوم تمر بفترة انتقالية خطيرة تحاول فيها الخروج من حالة تشرذم وضعف لتضع قدمها على الطريق الصحيح، وبما أن الأسرة هي السياج الأخير الذي ما زال قائماً، فقد صارت مهمة التربية الإسلامية الصحيحة والحثيثة عملية لازمة لنهضة الأمة وخروجها من كبوتها، وأصبح فريضة على الآباء، والأمهات، خصوصاً، أن يتفرغن لتربية أبنائهن وغرس القيم والمفاهيم الكبرى والتي تتوافق مع الغايات الكبرى.
وقد يتساءل البعض: أنى للرجل من وقت يعطيه لأبنائه، فهو مضطر بحكم مسؤولياته العملية أن يترك تربيتهن كاملة للأم وحدها؟ والجواب عند سيد الخلق عليه الصلاة والسلام حين كان يفرغ نفسه -وهو أكثر الخلق انشغالاً بمهمته- للأطفال فيلاعب الحسن، والحسين، ويوجههما توجيهات مباشرة ويمارس معهما دور الأب الراعي العطوف، وها هو صلى الله عليه وسلم يلقي اللوم على الأقرع بن حابس الذي لا يُقَبِّل أبناءه قائلاً له: «وما أصنع بك إذا نُزعت الرحمة من قلبك؟».
فأمر التربية مسؤولية الأب في المقام الأول، وتليه الأم التي يجب أن تُطلِع زوجها على كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الأبناء، وأن يتفقا معاً ألا يتركا أبناءهما لدور الحضانة والمدرسة والمجتمع المحيط دون رقابة دقيقة لتمتد تلك الرقابة للمناهج التعليمية والتربوية والتواصل مع المعلمين في هذا الشأن، هذا غير متابعة الأصدقاء والمشاركة في اختيارهم مع ترك مساحة من الحرية كنوع من التدريب علي تحمل المسؤولية الشخصية، غير أنها تكون حرية داخل إطار الحماية الأسرية.
إن مؤسسة الأسرة هي نوع من الشراكة الحميمة بين أفراد متحابين؛ والد راع أوصاه نبيه بالنساء خيراً، وزوجة بحسن تبعلها تنال الجنة، وأبناء يدخلهم البر الجنة، مؤسسة كتلك يمكن أن تنقل المجتمع المسلم لمجتمع ريادي يقود العالم.
الدور التاريخي للأسرة في البناء المجتمعي والأممي
إن القارئ الجيد للتاريخ الإسلامي يجد أن الأمة المسلمة التي تكونت من مجموعة من الأفراد في بدايتها كان أساسها الأسرة المكونة من الوالدين والأبناء الذين حملوا على عواتقهم هَم الدعوة والانتقال بها من مدينة لمدينة، في عمق الصحراء، ثم التحرك بها نحو العالم فاتحين.
فها هي أسرة ياسر بن عامر وزوجته سمية بنت خياط وابنهما عمار بن ياسر، كانت أسرة سباقة للإسلام ودفعت ثمن فكرتها غالياً لتكون الزوجة أول دم يراق في سبيل الله لتسجل الشهادة قبل الرجال، ويشكو عمار يوماً لرسول الله: لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ، فناداه الرسول صلى الله عليه وسلم: «صبراً أبا اليقظان، صبراً آل ياسر، إن موعدكم الجنة».
ويهاجر عمار ليبلغ في المدينة مكانة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: »اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر، واهتدوا بهدي عمار»، وينظر رسول الله في وجهه ليقول للصحابة: «ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية».
وفي «صفين» يفصل عمار بين جبهة الحق وجبهة الباطل ليعرض بعض الصحابة وينسحبون من المعركة، وينضم آخرون لجيش علي بن أبي طالب.
وها هي أسرة أبي بكر الصديق، يتركهم ويهاجر مع صاحبه، لتقوم ابنته أسماء بمهمة لا يستطيعها الكثير من الرجال، فتؤتمن مخابراتياً على مسار الرحلة الأهم في التاريخ الإنساني كله، رحلة الهجرة بالدين إلى المدينة المنورة، تذهب بالزاد، ويذهب مولاهم بالغنم ليخفي آثار الأقدام التي تتحسسها قريش للقضاء عليها، ثم تهاجر الأسرة إلى المدينة لحاقاً بنبيهم وأبيهم ليأخذوا مكانهم في وضع حجر أساس الأمة وتشكيل مستقبلها.
وهكذا قامت الدولة المسلمة على عواتق الأسر المترابطة المتحابة المبنية على عقيدة متينة تجمع بين كل أفرادها.
إن لفظ الأسرة مشتق لغوياً من الأَسْر أو الرباط، وتُعرف بأنها الدرع الحصينة، ويطلق هذا المعنى على المجموعات التي ترتبط بأمر مشترك فيما بينها، فأصل الانتماء للأسرة هو التبعية والانتماء والارتباط المعنوي والحركي، النفسي والفكري، والسلوكي والوجداني.
ولذلك غالباً ما تجد أبناء الأسرة الواحدة متشابهين فكرياً وعملياً، وإن اختلفت الاتجاهات العلمية، يتشبه الذكور فيها بالأب، وتتشبه الفتيات بالأم، وذلك كلما كان الرباط وثيقاً.
ومن هنا كان لزاماً على الأبوين أن يراقبا أنفسهما أولاً إذا أرادا تربية أبنائهما تربية صالحة، وكانا من أصحاب الهمم العالية، وعليهما إدراك أن الأمر جد خطير ولا يجوز التهاون فيه بأي حجة كانت، ولا يغفر للأبوين حسن النوايا إذا كانت الاهتمامات في اتجاه آخر غير ما يحتاجه الدين وترنو إليه الأمة.
______________________________
(*) كاتبة مصرية وباحثة في الشأن الإسلامي.