منذ أكثر من 15 عاماً، أجريت نقاشاً مع المفكرة الراحلة د. منى أبو الفضل حول الوسطية، وكان تساؤلي الرئيس: لماذا يدعي الجميع الانتماء للوسطية، رغم بُعده الواضح عنها؟ وكيف أثر هذا التكالب في التشنيع على المفهوم، والزعم بأنه «زئبقي» لا يستطيع أحد الإمساك به؟
أما جوابها فأكد أن إعلان الأطياف المختلفة تبنيها للوسطية يبرز قيمة المفهوم، فالوسطية تكاد أن تكون فطرية وإنسانية، والمفهوم يتخذ سمة الفضيلة أينما اتجه، وكأنه نظام تتحقق من خلاله الحماية، كذلك فإننا لا نحدد الانحراف القيمي إلا إذا كانت الوسطية معروفة وواضحة، ولفتت الانتباه إلى ما أسمته «الاستقرار الحميد» وليس الجامد الذي تخلقه الوسطية، فحركية الوسطية ومرونتها وتطورها دليل على الحياة، فهي مفهوم لا يعرف السكون، كما أن غيابها هو غياب للميزان الذي يحقق العدل والاعتدال، وربما هذا ما أكده الإمام الشاطبي في «الموافقات» بقوله: «الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها، على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه ولا انحلال؛ بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال».
مفهوم استيعابي
الوسطية قيمة ومفهوم وممارسة، ودليل دامغ على المنحرفين في أي اتجاه، وحجة على المترخصين من أي مذهب وفكر، لهذا لاقت العداء والممانعة من اتجاهات متنوعة، وانهالت عليها الاتهامات، وتعرضت لكثير من التوظيف والاستغلال، فحضور الوسطية في الفكر والتطبيق يكشف الانحرافات بشتى أنواعها، ومن ناحية أخرى فالوسطية فكرة كبيرة، والوصول إليها لا يأتي إلا بعد جهد وجهاد طويل، والاستقرار عليها والتمسك بها في ظل الضغوط نوع من الصبر الكبير، ودائماً الأفكار الكبيرة تحاربها العقول المتواضعة، والنفوس البائسة، وكما يُقال: «الرداءة لا تعرف شيئًا أعلى من نفسها».
والوسطية من خصائص الأمة المسلمة، فهي الأمة الوسط، وهذه الوسطية تتيح للأمة تبوؤ مقام الشهادة على الناس جميعاً، سواء الذي انحرفوا تجاه المادية البحتة، أو الروحانية المفرطة، فالأمة المسلمة شهادة عليهم جميعاً في إقامة ميزان العدل، والسير في مسار الاعتدال.
ومن خلال تاريخ الإسلام وحضارته، نجد أن الوسطية على مستوى الرؤية والتطبيق كانت مقاومة لتراجع الأمة، ومساراً في مقاومة أعدائها، ومسعى للارتقاء العلمي والتقني، وجهوداً لمواجهة التخلف والجمود، ويمكن تلخيص ذلك كله بالقول: إن الوسطية تتحرك على أوجاع الأمة ومعضلاتها لترممها وتجد علاجها، ولتبعث فيها عوامل قوتها وثباتها وعودتها، لذلك كانت الوسطية مفهوماً مرناً متحركاً وغير ساكن أو جامد.
وفي المقابل، نجد أن تغييب الوسطية يجبر المجتمع لأن يسلك سبيل الانحدار والتخلف والتطرف، ولعل أحد ملامح قوة الوسطية أنها تمتلك قوة معرفية عميقة بثوابت الإسلام ومتغيراته، تُمكنها من الابتعاد عن التيه والحيرة في أوقات الأزمات والمعضلات، وتمنحها البوصلة الصحيحة لتحديد المسار للحفاظ على الأمة وقوتها، فنجد، مثلاً، ابن تيمية، فبجانب دوره الإصلاحي والتجديدي في الفكر والفقه الإسلامي وعلم الكلام، حارب الصليبيين والتتار وشارك في 5 معارك كبرى، منها: معركة فتح عكا حتى تم استرجاعها من الصليبيين عام (690هـ)، وحارب الطائفة الباطنية في مجال الفكر والميدان، كما ناهض الحكام المستبدين مما عرضه للسجن 7 مرات، حتى مات في محبسه، فكان موازناً بين جهاده وجهوده الإصلاحية والتعليمية، ومقاومة البدع والخرافات.
والوسطية لا تجمد على موقف واحد أو قضية بعينها، ولكنها تنظر إلى ثوابت الإسلام أنها علامات هادية في الطريق، وترى أن الثوابت محدودة، أما أغلب الفضاء فقائم على المتغيرات، ومن ثم يجد الوسطيون لحركتهم مجالاً رحباً، لذا تتحول الوسطية لمفهوم استيعابي، قادر على الصمود والتحدي والمناورة والتجديد؛ بل وقادر على هضم التطورات المتسارعة في الواقع وتحويلها إلى مادة مفيدة، وهنا نسترجع مقولة الأديب العقاد: «إن العقل الصحيح مثل الجسم الصحيح قادر على الاستفادة من أي طعام»؛ وبالتالي تصبح الوسطية قادرة على الاستفادة من أي تحدٍّ أو فرصة والانطلاق منها نحو تحقيق الهدف والغاية.
رمز للكمال
جاء في تفسير «المنار» أن وسطية الأمة المسلمة رمز للكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال، كمال يتيح الشهادة على الناس؛ لأن «الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفاً به، ومن كان متوسطاً بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب، وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان في أحد الطرفين، فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر، ولا حال الوسط أيضا».
ومن يطالع مسيرة وتجارب رواد النهضة خلال القرنين الماضيين، نجد أنهم كانوا يمثلون تجلياً للوسطية، التي تراعي مصالح الأمة، وحريتها ونهضتها وإعادة ريادتها من جديد، فتجدهم مهتمين بإزاحة الجمود عن الفكر الديني، الذي حصر الإسلام في مجموعة من الأوراد التي تُردد بلا تعقل لمعانيها وغاياتها، كما أنهم كانوا من رواد التعليم، الراغبين في تطويره والنهوض به، فأنشؤوا الكثير من المدارس، وكانت جهودهم حاضرة في إنشاء الكثير من الجامعات الحديثة، مثل دور الشيخ محمد عبده في إنشاء الجامعة المصرية، أو حلمه في إصلاح التعليم الأزهري، والذي تحقق جزء منه، بعد رحيله من خلال إنشاء مدرسة القضاء الشرعي، التي نهضت بالفكر الإسلامي الحديث، أو دوره في مقاومة الاستعمار من خلال المشاركة في الثورة العرابية، ثم إصدار صحيفة «العروة الوثقي».
كذلك الشيخ الجزائري عبدالحميد بن باديس الذي يعد أحد كبار المصلحين الوسطيين، وكان لتعاليمه دور في مقاومة الاستعمار الفرنسي، والحفاظ على عروبة الجزائر، والنهوض بالتعليم، والانفتاح على العلوم العصرية في ظل المحافظة على الهوية الإسلامية، ومن أقواله الشهيرة: «كن عصريًا في فكرك وفي عملك وفي تجاربك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك، فاحذر كل متعيلم يزهدك في كل علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة البشرية، ودعا إليها القرآن بالآيات الصريحة، وخدمها علماء المسلمين بالتحسين والاستنباط»، أو المصلح المغربي علال الفاسي الذي قاوم الاستعمار، واستحضر عظمة الشريعة الإسلامية لتكون فاعلة في تكوين الأمة المغربية الناهضة، واستنباط الحلول، والمحافظ على ثوابت الدين والوطنية.
نقطة قوة
والواقع أن الوسطية نقطة قوة في الأمة المسلمة، تشبه نقطة المركز في الدائرة، تلك النقطة التي بدونها لا يمكن رسم الدائرة، يقول ابن تيمية: «وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه».
في كتابه «الوسطية الحضارية: تحديات الفكرة والحركة»، يذهب المفكر القبطي رفيق حبيب إلى أن معركة مشروع الوسطية هي: مواجهة التردي الحضاري الداخلي، ومواجهة الاستبداد السياسي، ومقاومة العدوان الخارجي، ومواجهة مشاريع الهيمنة الخارجية، ومشاريع التغريب والعلمنة، ولهذا كانت غاية الوسطية استعادة الهوية الحضارية والدينية، ليس من أجل المحافظة على الذات، فقط، ولكن لتغيير الواقع إلى قيمها ومبادئها، لتصبح الوسطية محاولة لإصلاح الواقع عبر التعايش معه، وليست مسعى للتكيف مع الواقع.