دائمًا ما تصيب كلمة «تجديد الخطاب الديني» حساسية لدى المجتمع المسلم؛ إذ ارتبطت مرارًا بمحاولات بائسة مؤسساتية وفردية نحو هدر أسس الدين والتشكيك في أصول العقيدة، بنفس قدر ارتباطها المحمود بالسعي لمواءمة حياة المسلمين مع عصرهم من خلال الاجتهاد في أبواب الفقه المتنوعة.
وعبر القرون الماضية، تنادى علماء المسلمين ومفكروهم ورجال النهضة والإصلاح بوجوب التجديد والإصلاح لتحقيق النهضة واستئناف الحضارة العربية الإسلامية، بعدما أصابها من ركود، يصل أحياناً إلى الجمود، وكانت فيما يعرف بالعصور الوسطى من القرن السابع الميلادي حتى القرن الرابع عشر، تقود حركة العلم العالمي في ميادينه القانونية والاجتماعية، فصاغت الحضارة الإسلامية «فقه القانون الدولي» ونظم الحرب والسلام، والتجارة والتعاون الاقتصادي، بل صنعت أصول المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والرياضيات، الذي تبنته الحضارة الغربية في عصرها الحديث، بعد القرن الخامس عشر الميلادي، كما يقول سارتون ولكن لم يصحبه –لسوء حظ الإنسانية- تقدم مماثل في المجالات الخلقية والروحية، فغلبت الدوافع المادية والمصالح الذاتية، وتجسد ذلك فيما يعرف بظاهرة الاستعمار الذي عانينا نحن الشرقيين منه، وما زلنا نتعثر في بعض أذياله. (د. عباس شومان، من جهود الأزهر في التجديد).
التجديد أصل ديني
يرى علماء المسلمين بدءًا من القرن الأول وحتى نهاية القرن الثامن الهجري أن التجديد الفكري والفقهي المتواصل في حياة الأمة ضرورة واقعية؛ لأن الإسلام جاء ديناً خاتماً للرسالات الإلهية، وهو دين عالمي، ارتضاه الله تعالى للإنسانية، كما أن التجديد ضرورة شرعية لأن القوانين الاجتماعية والتاريخية في حياة البشر تتطور، وتتجدد فيها النوازل والأوضاع، وكي تظل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لا بد لها من التواصل مع حركة الحياة باعتماد الاجتهاد والتجديد.
والحق أن مصطلح التجديد قديم بقدم الرسالة المحمدية الخالدة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» (صحيح أبي داود)؛ وهذا يؤكد أن مراجعة تفكيرنا الديني ضرورة ماسة لكل داعية مسلم (الشيخ محمد الغزالي، علل وأدوية).
ولقد اختلف المجتهدون على مدار التاريخ الإسلامي، وفي داخل المذهب الواحد، فما قال به أبو يوسف، ومحمد بن الحسن ليس مطابقاً لما قال به أبو حنيفة في كل مسألة، والفقه الشافعي منه قديم وجديد.
وهنا نحن أمام تجديد لأمر الدين ومكانته وسلطانه وليس تجديداً للدين نفسه، بحسب د. أحمد كمال أبو المجد في حوار لا مواجهة، والمقصود هو فهم الداعية للأدلة فهماً جيداً يساير العصر في تطوره ومخاطبة الناس به، وهو لا يعني تجديداً وتبديلاً في العقائد وأصول الدين الثابتة، ولا في كتاب الله وسُنة رسوله الصحيحة، ولكن في فهم شؤون الحياة ومظاهرها المتعددة من خلال النصوص الدينية.
والإيمان بالله وإخلاص العبادة له، وكافة أمور العقيدة ليس فيما يدخل فيه التجديد، ولا مكارم الأخلاق، لكنه في شؤون الحياة كما ذكرنا وفي حقيقة الإيمان نفسه في قلوبنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (سنن أبي داود).
ومن هنا سنجد أنه كلما اتسعت ثقافة الداعية ومتابعته لمستجدات العصر وتمكنه من أدواته في الاستنباط والفهم الشرعي أصولاً وفروعاً، سنرى أنه قادر على تكوين خطاب متجدد. (د. سالم عبدالجليل، تجديد الخطاب الديني).
من له حق الاجتهاد
تسود فوضى كبيرة في مسألة الاجتهاد وإطلاق الفتاوى في عصرنا، والتصورات التي تطال ليس أمور الفقه، بل العقيدة من قبل منتسبين زوراً للفكر الإسلامي، ونقل الشوكاني قول الإمام القرافي رحمه الله في «إرشاد الفحول»: «مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد»، لكن المحنة التي ابتليت بها أمتنا، من يجوز له الاجتهاد؛ لقد قال الحق سبحانه: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).
ومن شروط المجتهد المطلق: قدرة استنباط الأحكام الشرعية من خلال سمات شخصية كالإسلام والعقل والعدالة والتقوى، وسمات علمية تخص بمدارك الشرع وإحاطته بها، وبالقرآن الكريم، وبالسُّنة النبوية، بعلوم اللغة العربية كالنحو والبلاغة، وبمعاقد الإجماع الفقهي، وبمقاصد الشريعة، ووجوه القياس، والناسخ والمنسوخ، وهكذا يستطيع النظر في المسالة المعروضة عليه هل فيها نص قطعي في القرآن والسُّنة، ثم هل جرى فيها إجماع فقهي ومدى حجيته اليوم، ثم إمكانية استنباط حكم شرعي وفق قواعد الفقه والأصول.
مواطن الاجتهاد الحقيقية
لا يرتاب المسلمون في أن القرآن الكريم الذي هو كتاب الله المعجز، المقطوع بتواتره، وأن بيانه النبوي في السُّنة الصحيحة التي غربل الحفاظ من الرواة والأئمة المجتهدين حصيلتها فيما بين القرنين الأول والثالث الهجري، هما مصدر الأحكام الشرعية، حتى إن المفتونين بدعاوى التجديد الزائفة، الداعين للأخذ بالقرآن وحده دون السُّنة؛ ملزمون بنص القرآن نفسه لأن يأخذوا ما آتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهوا عما نهاهم عنه؛ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7).
ويؤكد جمهور المفسرين أن أصول العقيدة وأمهات الفضائل لا تختلف بين الأديان الإلهية المنزلة إلا بالتفاصيل، وتتمثل في الوصايا العشر الواردة في آخر سورتي «الأنعام» و«الفرقان»، وفي قلب سورة «الإسراء».
أما فروع الدين مما يتناول الأحكام العملية المتعلقة بأفعال الأفراد والجماعات من الحلال والحرام وتفاصيلها، فهي مجال عمل المجتهدين. (من جهود الأزهر في التجديد، مصدر سابق).
والتجديد يجب أن يستند إلى أصول التراث، فليس التجديد لا عند المسلمين ولا غيرهم، قطيعة مع التراث أو رفضاً كاملاً له، بل هو بناء على ثوابته وقواعده، واصطحاب ذلك لمواجهة المستجدات، والإسلام يحترم المنهج العلمي في التفكير، يقول الحق سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، فالكتاب هو القرآن الكريم المنزل، والميزان هو العقل، وهو المعيار الذي تمسك به أساطين الأئمة في استنباطهم، ومنهم ابن تيمية الحنبلي المحافظ، والغزالي الفقيه الصوفي صاحب إحياء علوم الدين. (المصدر السابق).
تحديات الخطاب الإسلامي العالمي
إحدى عقبات محاولات تجديد الخطاب الديني هو ربطها فحسب بتنقية الخطاب من المحدثات والعادات وإعادته لأصوله، وهذا عمل لا ينطوي على تجديد في الواقع، بل هو استعادة لنفس المدارس الفقهية القديمة، وبعض الدعاة يتمسكون بأن كل المحدثات بدعة محرمة، والحقيقة أننا بحاجة للاجتهاد الحقيقي في أمور السياسة والحكم ومعاش المسلمين وعلاقاتهم مع أنفسهم ومع الآخر، والتشابكات المالية المعقدة، وتدهور القيم، والأدلة المقبولة في تجديد الفقه واستنباطه، والمستجدات العصرية التي تعالج مشكلات الناس الصحية والاجتماعية وغيرها. (د. حاتم الحاج: شرعية مفهوم التجديد ونطاقاته).
ويبدو أن للدعاة دوراً غير محدود حالياً في عملية ترويج خطاب عصري يستند لصحيح الدين، خطاب ينطلق بأدوات وتقنيات ملائمة للعصر، تخاطب قضايا المسلمين حالياً في بلدانهم، وبعض الأقليات أيضاً في بلدان غير مسلمة، فكثير من الدعاة بانغلاقهم يروجون صورة سلبية تماماً عن الإسلام، عليهم أيضاً أن ينسقوا خطاباً إسلامياً صالحاً للعالم وليس لأنفسنا وحدنا، فنحن نرى اختلافاً في المذاهب يجعل الاختلاف في الآراء الفقهية من بلد لآخر حقلاً شاسعاً، صحيح أن الخلاف رحمة وسعة في الفروع، لكن ينبغي أن يكون هناك اتفاق في القضايا العامة التي تهم المسلمين. (د. حاتم الحاج من بحث مقدم لمؤتمر مجمع الفقهاء بأمريكا الشمالية باسم «The Renewal of Islamic Discourse»).
علينا أيضاً بحث دلالة استنباطات كثيرة قادتنا لتصورات خاطئة فقهية، فهذا باب مهم للاجتهاد، كما علينا التأكيد على أن الفكر البشري وحده ليس المنوط باستنباط الأحكام دون قواعد كلية من النصوص الشرعية، وإلا سقطنا في مشكلة المعتزلة وفكرهم القديم، ولا أن نهمل هذا العقل في عملية الاستنباط فنسقط في الانغلاق الذي أدى بكثير من المدارس المتطرفة لما هم فيه الآن، فالفتوى عملية متغيرة بتغير الزمان والمكان والملابسات، واليوم نحن بحاجة لمتخصصين ليضعوا فتاوى متخصصة بكل فرع من العلوم، فهو يحتاج دراية بكثير من المستحدثات التي نعيشها، هذا عن الاجتهاد، وهنا نحن أمام اجتهاد لازم لمواكبة العصر وفي الوقت نفسه لا يتخاصم مع الوحي كما يفعل بعض المنتسبين للاجتهاد؛ فالعقيدة ثابتة، وصحيح السُّنة، والإجماع بحد ذاته له حجيته بشرط الوقوف على مدى وجوبه لزماننا وأدلته. (المصدر السابق).
كان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يقول: «ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة».