شكل التراث وما يتعلق به من تجديد ونقد، أو إعادة تأويل ونقض، أحد أهم محاور اهتمام الباحثين والمثقفين في بداية القرن العشرين وحتى اليوم، وحظي بكثير من الدراسات والمؤتمرات والمقالات البحثية المختلفة في منطلقاتها ومناهجها ومآلاتها.
وبين ضرورة الاجتهاد والتجديد وأخطار التبديل والتبديد وقع كثير من القراء في حيرة واضطراب، وذلك بسبب عدم وضوح الموضوع أو المشروع، أو بسبب اختلال المعيار الذي يوضح الحدّ الفاصل بين المسموح والممنوع.
في هذا المقال، نحاول أن نقف على مشروع من مشاريع إعادة قراءة التراث «مشروع إعادة تأويل التراث»، لعلنا نساهم في توضيح الرؤية وضبط الميزان، من أجل خطوة إلى الأمام.
خصوصية التراث الإسلامي
للتراث الإسلامي خصوصيته المتفردة، فالتراث في الحالة الإسلامية ليس ميراث الآباء والأجداد، ولا الهوية الجامعة التي تحفظ الأمة وحضارتها من الذوبان في غيرها من الحضارات فقط، بل منه أيضاً دين الله ومنهجه، الذي يبين مراد الله في الإنسان، ويربط به مستقبله ومصيره الخالد في الحياة الأخرى.
فقد أخبرنا كتاب الله تعالى أن الدين من ميراث هذه الأمة وتراثها، وأن المسلمين الوارثين له مسؤولون عنه ومتفاوتون في الالتزام به، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 32).
بين تجديد الدين وتبديله
وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التجديد ضرورة دينية، حذرنا أيضاً من خطر تبديل الدين وتغيير أحكامه، فقال صلى الله عليه وسلم في ضرورة التجديد: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» (رواه أبو داود بسند صحيح)، وقال عليه الصلاة والسلام في التحذير من التبديل والتغيير: «أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»، وفي رواية: «فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي» (رواه البخاري ومسلم).
مجالات التجديد
ليس كل ما في التراث من القطعي الذي لا يقبل المراجعة، بل في التراث الإسلامي أفهام بشرية أيضاً، ظنية في ثبوتها، أو ظنية في دلالتها، أو ظنية في كل منهما، ومن التراث أحكام شرعية بنيت على الضرورة والحاجة الواقعية التي تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال، وهي التي قيل فيها: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، ومن التراث ما هو خطأ محض نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على وجوده في التاريخ الإسلامي كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني! فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نَعَمْ»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْىٍ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ».
وجود هذه الأمور ونحوها تدل على أن المجال واسع للاجتهاد والبحث والتجديد الأصيل في التراث بشرط أن يكون مبنياً على الدليل والبرهان، الذي يؤكد الحقيقة الدينية وقطعياتها، ويستأنف الحياة الإسلامية بإبداع وتجديد، وقد وجدنا في تراثنا الإسلامي أمثلة عديدة من هذا النوع من المراجعات، من زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم.
إعادة تأويل التراث
ظهرت في الأمة مشاريع كثيرة تدعو إلى إعادة النظر في التراث، فصرخ بعضها برفض التراث كله والقطيعة الكاملة معه، ودعا بعضها إلى ضرورة التحرر من ثوابته وقطعياته عن طريق إعادة تأويله وتفسيره، ليتقبل العالم الإسلامي منتجات الحضارة الغالبة كما هي، تحت عباءة ظاهرها الإسلام وباطنها غيره، وهو ما عرف بمشروع «إعادة تأويل التراث».
في الظاهر ينادي مشروع إعادة تأويل التراث بنصوص الكتاب والسُّنة وبضرورة احترامها وتقديسها، ولكنه عند التأويل والتفسير والبيان يلغي معانيها القطعية الثابتة بالأدلة المعتبرة، ويحملها ما يريد من المعاني الجديدة التي لا تدل عليها، فقط لأنها تناسب الأفكار التي تريدها الحضارة الغالبة.
وفي الحقيقة هذه الطريقة في الفهم تعني إلغاء الوظيفة الأساسية الأولى للنص الإسلامي، الذي هو رسالة الله للعالمين، لأنه جاء مصلحاً للواقع لا مبرراً له، يكلف الإنسان بالمعاني، ولا يملي عليه الإنسان أو الواقع معانيه.
ويمكن تقديم ملخص مختصر لمشروع إعادة تأويل التراث عن طريق بيان منطلقه ومنهجه ومآله:
أما منطلقه الأول فيكمن في نظرته للتراث الإسلامي كله، من كونه منتجاً بشرياً لا يحمل أي رسالة ربانية، وإنما اختار الأسلاف معانيه ليناسب واقعهم، وواجب المعاصرين أن يفعلوا مثلهم في تحميله المعاني التي يرونها مناسبة لهم ولحاضرهم.
وفي المنهج يرفض مشروع إعادة تأويل التراث الاعتماد على الأصول العربية وعلى قواعد علم أصول الفقه التي أرشد إليها النص نفسه، بل يسير وفق مناهج الفهم الغربية التي أصَّلها أصحابها لكتابات بشرية لا تحمل أي رسالة ولا يترتب عليها أي جزاء.
أما في المآل، فقد وصل هذا المشروع في صورته النهائية إلى إلغاء دور النص في تكليف الإنسان وإصلاح الواقع، ليكون مجرد وسيلة لقبول الثقافة المادية الإلحادية المهيمنة على العالم اليوم بطريقة لبقة، حتى وجدنا بعضهم يبرر المثلية ويشرعها باسم إعادة قراءة النص!
إن مشروع إعادة تأويل التراث ما هو إلا مراوغة حداثية تعتمد على النص لإعادة تمرير قيم الحضارة المادية بحروف إسلامية، والله تعالى حفظ دينه بنصوصه ومعانيه القطعية، وجعله رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة، ولذا فإننا نعتبر أن أي محاولة للتلاعب بقطعيات هذا الدين محاولة آثمة تستهدف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) (طه: 124).
والله تعالى وحده الهادي والموفق إلى كل مطلب.