تمر الأمة الاسلامية بمناسبة عظيمة تتمثل في شهر ربيع الأول، شهر مولد خير البشر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله سبحانه هاديا ومبشرا ونذيرا، وهو الذي مدحه الله بقوله تعالى “وإنك لعلى خلق عظيم”.
شهر ربيع الأول هو شهر الأنوار فهو الشهر الذي وُلد وتوفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الشهر الذي دخل فيه الي المدينة قادما من مكة في هجرته المباركة بصحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
لإحياء معنى القدوة الحسنة
وإذا كان المطلوب إحياء المعاني الطيبة لهذا الشهر في نفوس المسلمين وأبنائهم في البلاد الإسلامية، فإن الحاجة أوكد في ديار الغرب حيث يتصاعد الحضور الإسلامي في الغرب ويتجذر يوما بعد يوم، مقابل تصاعد موجة الإسلاموفوبيا والصورة السلبية للإسلام والمسلمين.
إن شهر ربيع الاول فرصة ذهبية لدى المسلمين على مستويين:
المستوى الأول يخص الدائرة الإسلامية. هناك إشكال يعيشه المسلمون عموما بما في ذلك الأقليات المسلمة وهو الانفصام الرهيب بين الإيمان والعمل، وبين القول والفعل. ولعل شهر ربيع الأول فرصة لإحياء معنى القدوة الحسنة.
المؤسسات وصقل الشخصية والهوية الإسلامية
وهناك مسؤولية ملقاة على كاهل المؤسسات والنخب المسلمة للتركيز على الاقتداء بنموذج النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة اليومية ليس فقط في باب العبادات بل أيضا في باب المعاملات، والتأكيد على الحديث الذي لخص مقاصد الإسلام في تنزيل النص إلى الواقع. ” الدين المعاملة”. العديد من الشباب اليوم يتخذون قدوات باسم النجومية في الرياضة والفن وغيرها من الميادين.
من هنا تأتي أهمية استثمار مناسبة المولد النبوي وشهر ربيع الأول من طرف المؤسسات الإسلامية لصقل الشخصية المسلمة اقتداء بخير البشر. فما أحوج المسلمين اليوم وشبابهم خاصة وهم مقيمون في ديار الغرب أن يكونوا سفراء للإسلام عن طريق سلوكيات تتماشى وروح هذا الدين القائم على الأخلاق الرفيعة والوسطية التي تنبذ كل أصناف الغلو والتطرف تسيبا أو تشددا.
إن مسألة القدوة الحسنة من القضايا الحيوية التي من المفترض أن تكون على رأس أولويات البرامج التربوية والخطب التوجيهية والدروس والمحاضرات والملتقيات حتى تتحول قدوة الرسول صلى الله عليه وسلم قناعة وثقافة يتشربها المسلمون في حياتهم اليومية، سواء في العبادات من صلاة وغيرها، أو في المعاملات وعلى رأسها العلاقات الأسرية (العلاقات الزوجية وبين الأبناء والأولياء) علاوة على العلاقة بالآخرين مع الأقارب والجيران ومع الناس عموما.
التعايش مع غير المسلمين
وعلى ذكر الناس، فأن الأمر في ديار الغرب مختلف عن البلاد الإسلامية من حيث نمط العيش والعقليات، وإذا كانت بلاد إسلامية عدة متنوعة التركيبة العرقية والدينية، مع وجود تطبع وتعايش في غالب الأحيان مع الاختلاف الديني (مسلمون وأقليات مسيحية..)، فإن وضع الأقليات المسلمة في الغرب مختلف لسيادة الثقافة الغربية، وهو وضع يقتضي الحكمة في التعامل مع قيم تتناقض أحيانا مع القيم الإسلامية، مثل فلسفة الحرية حدودها وضوابطها.
إضافة إلى مسالة وجود أقلية مسلمة في ظل مجتمعات غير مسلمة فإن مسالة التعايش تصبح دقيقة، وهي تحتاج أيضا إلى حكمة كبيرة في التعامل مع غير المسلم وهو جارك وصديقك في الدراسة والعمل، وفي شؤون التسيير والمرتبطة بمؤسسات الدولة في مختلف مستوياتها.
وكلما تجذر الحضور الإسلامي في ديار الغرب كلما ظهرت مؤشرات لردود فعل شعبوية وعنصرية، وليس غريبا أن تتصاعد موجات الإسلاموفوبيا بحجة التخوف على ضياع الهوية المسيحية للمجتمعات الغربية.
ومثل هذه التحديات تقتضي سياسات وخطط استراتيجية لامتصاص خطاب الكراهية والاقصاء لأسباب دينية، بالاستعانة بالهدي النبوي في التعامل مع الآخر، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أهمية وثيقة المدينة التي أرست مبادئ المواطنة
مشروع حضاري على نهج الهدي النبوي
وهذا يقودنا إلى الحديث عن المستوى الثاني في استثمار شهر ربيع الأول ومولد الرسول صلى الله عليه في دائرة المجتمعات الغربية ومن ورائها المجتمع البشري، انطلاقا من عالمية الرسالة الإسلامية ومن حقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين، وأنه رحمة مهداة للبشرية وللإنس والجن.
وليس هناك أفضل طريقة لاستثمار شهر ربيع الاول من تقديم مشروع حضاري في العلاقات البشرية على نهج الهدي النبوي، حتى لا يقتصر على ذكرى مولد خير البشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فما أحوج البشرية اليوم إلى هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في ظل الأزمات والحروب والصراعات وضنك العيش بسبب اتّباع الهوى والأنانية وحب الذات والفساد في الأرض والظلم، وهو عكس ما نادى به الرسول من عدل واستقامة وتعاون على البر والتقوى.
إنسانية دين الإسلام
ويقتضي هذا المشروع الحضاري حسن التعريف بسيرة خير البشرية قولا وعملا، خاصة ما يتعلق بالقضايا الحيوية التي تشد انتباه الغربيين وتتماشى مع تطلعاتهم.
ويمكن في هذا السياق ذكر مسألة إنسانية الإسلام، بمعنى أن الإسلام يخاطب ويهتم بالإنسان الذي أكرمه الله وضمن حقوقه بتوازن مع واجباته، والإنسانية بمعنى الشمولية أيضا للنوع البشري دون تمييز عرقي أو ديني، بل إن الإسلام الذي جاء به الهدي النبوي يحترم كل المخلوقات من حيوان وبيئة وطبيعة.
وبهذه الطريقة، يتم تدريجيا تغيير الصورة السلبية السائدة في الذهنية الغربية عن خير البشر، والتي تتمحور حول العنف والإغراق في اللذة، بالتأثر ببعض الأدبيات الاستشراقية والتشويه الإعلامي (كاريكاتور..)، لتتحول إلى صورة مصلح يحمل الخير والنور للبشر.
إن أمة محمد مطالبة اليوم بأن تكون خير سفير للإسلام ولهدي وأخلاق خير الأنام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومصدر هداية وإرشاد لأرقى أنموذج حضاري في العلاقات البشرية.