تعتبر أحاديث رؤساء أجهزة المخابرات عن أوضاع بلدانهم الداخلية واستقرار المجتمعات ورصد الأخطار التي تحوم من هنا وهناك؛ تعد من الأحاديث الأكثر صدقاً ودقة في وصف الأحوال وتقدير المواقف، وعادة ما تكون صريحة ومباشرة.
فماذا قال لنا أحد أهم رؤساء «الموساد» عن المجتمع والدولة في «إسرائيل»؟
إنه تامير باردو ذو الأصول الإسبانية الأندلسية المولود عام 1953م، الحاصل على بكالوريوس علوم سياسية من جامعة تل أبيب، مدير «الموساد» في أخطر فترة مرت بالشرق الأوسط (2011 – 2016م).
باردو ألقى محاضرة في جامعة ناتانيا، في يونيو 2022م، بعنوان «إسرائيل تعتمد آلية التدمير الذاتي»، وقال، وفقاً لما نشرته جريدة «إسرائيل هيوم»: بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق «إسرائيل»، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن «الإسرائيليين»، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تماماً مثل أيام تدمير الهيكل الثاني (70م في عهد الإمبراطورية الرومانية).
مما يستدعي منا وقف هذا المسار الكارثي، قبل نقطة عدم العودة؛ لأن «إسرائيل» تنهار ذاتياً، صحيح أنها غنية وميسورة، لكنها ممزقة ونازفة، والأخطار لا تنقضي، وبعد قليل ستعمل آلية الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة بيننا.
نحن هنا أمام عقل خطير من العقول التي تدير الشأن «الإسرائيلي» خلال السنوات القليلة الماضية من سدته العليا، ولعله ما زال حاضراً قوياً، فما قاله لا يتعلق بأزمة عابرة، مرهونة بوقت وأحداث وأشخاص محددين، لذلك أتصور أن الرجل ما زال هناك، يرى ويسمع ويقول ويُسمع له.
المهم هنا أننا أمام تساؤلات وجودية، تتعلق باستمرار دولة في الوجود! وليس مجرد أزمة أو كارثة طارئة، وهذه التساؤلات نابعة من أخطار حقيقية، تنذر بخطر داهم على هذه الدولة، وعلى لسان نخب قيادية من صفها الأول.
الكلام جاد، وتتوافر له معلوماته ومعطياته، وله بالطبع نتائجه وآثاره، على الكيان نفسه، وعلى كل من ارتبط حبله بحبل هذا الكيان، لن أتحدث عن الشعب في «إسرائيل»، ولن أتحدث عن الشعب الصابر الصامد في كل فلسطين، ولن أتحدث عن «طوفان التطبيع» الذي رأيناه في السنوات الأخيرة.
لكني سأتحدث عن أخزى تجربة مرت بها هذه القضية المركزية عند كل عربي وكل مسلم، بل وأقول كل إنسان، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي رأى العالم فيها أهوالاً لا توصف في بشاعتها على أهلنا في غزة على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، والتجربة المخزية التي أقصدها هنا هي تجربة «أوسلو» والسلطة الوطنية.
في بحث نشرته مؤسسة كارنيجي، في مارس 2019م، عن مستقبل عملية السلام، ذكر أحد المشاركين في البحث أن السلطة الفلسطينية تآكلت في الواقع، ويُنظر إليها بازدراء متزايد، وفي أحسن الحالات ستواصل السلطة الفلسطينية المحافظة على الوضع القائم الذي يضمن استقرارها، بصرف النظر عن الديناميكيات المتغيرة على الأرض، وهي تعتمد في ذلك أساساً على القمع الداخلي، واستدراج الفصائل السياسية المنشقة.
وعلينا هنا أن ننتبه الى جملة «الوضع القائم» وطاحونة الهواء، التي تطحن الفراغ مع عدو شرس ودنيء في شراسته وغدره.
شيء مؤسف في الحقيقة وأكثر من عار أن تؤول منظمة التحرير الفلسطينية إلى هذا المآل!
ويحكي لنا د. تيموثي بينن، أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا، تلميذ العلَّامة الراحل د. إدوارد سعيد (ت 2003م)، في كتابه المهم «أماكن للفكر»، الذي ترجمه د. محمد عصفور، وصدر عن «عالم المعرفة»، قائلاً: على الرغم من أن وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم رحبت بها (يقصد أوسلو)، واعتبرتها سلاماً بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، فإن سعيداً وصفها بأنها «خيانة»، وقد عاش آخر سنواته في حالة من الغضب والألم.
إنها بالفعل خيانة، بل وتلد خيانة جديدة كل يوم، وقد سمعنا من أحدهم وصفاً لرجال المقاومة وهم في أتون النار والقتال، وترى الدنيا كلها منهم وتسمع بطولات رائعة والدماء والشهداء يملؤون المكان، سمعنا منه بكل استهانة قوله عنهم ولهم: «لا يمثلون الشعب الفلسطيني»!
لقد وضع السابع من أكتوبر حداً فاصلاً بين تاريخ وتاريخ، نحن عملياً أمام تاريخ بين تاريخين، وزمن بين زمنين، وشتان بين ما كان وما سيكون.
«إسرائيل» الآن مجرد «وجودها»، وليس «أمنها» فقط، أصبح مثار جدل ونقاش، وجاء «طوفان الأقصى» ليقدم لنا الدليل والبرهان على ذلك، وقد نطق وصدق رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت (78 عاماً) حين قال: نمر الأن بمفترق طريق نادر في تاريخ «إسرائيل».
لقد منحتنا المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها «حماس»، وهذا الشعب الأبي الكريم الصامد في غزة، منحونا جميعاً قدراً كبيراً للغاية من العزة، والكرامة المفعمة بالشرف والنبل والبهاء، في معنى الحياة ومعنى الوجود الحر الكريم في هذه الحياة.
فعلت ذلك أمس، واليوم، ودفعت أثماناً باهظة لقاء ذلك، ولم يسم قط إلى سماء تضحياتها، مقاومة وشعب ناضل مثل نضالها وبذل مثل بذلها، من أجل حريته وكرامته وبلاده.
وصدق أمير الشعراء حين قال:
قوة الله إن تولت ضعيفاً تعبت في مراسه الأقوياء