عادة ما ترتبط الحرب بمفهوم إعادة الإعمار الذي يشكل واحداً من عوامل مقاومة المجتمع لحالة الدمار التي تعرض لها، ووسيلة من وسائل ترميم الذاكرة وامتصاص صدمة ما بعد الحرب.
ورغم شيوعه، فإنه مفهوم حديث النشأة، إذ ظهر للمرة الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية ليصف جهود الجيش الأمريكي في إعادة بناء كل من ألمانيا واليابان اللتين تم تدميرهما خلال الحرب، وقد تأثر المفهوم بهذه الخلفية التاريخية واصطبغ بها؛ لأن عملية إعادة الإعمار تمت من قبل الدولة المحتلة أو الظافرة، واستهدفت إعادة هيكلة الدولة المندحرة وفق أسس تخدم مصالح المحتل وتحقق أهدافه الأمنية والاقتصادية من جهة، كما أنها اقتصرت على الجوانب المادية دون النواحي المعنوية التي تستهدف استعادة السلامة النفسية للأفراد وإعادة تأهيلهم معنوياً واجتماعياً للانخراط في المجتمع.
وعلى هذا تنحو معظم التعريفات إلى تعريف المفهوم تعريفاً مادياً لا أثر فيه للجوانب المعنوية أو الثقافية؛ إذ يعرفه مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث بأنه إعادة البناء المتوسطة والطويلة الأجل للبنى التحتية الحيوية والخدمات والمساكن والمرافق وسبل العيش اللازمة للتشغيل الكامل للجماعات أو المجتمعات المتضررة من الكوارث، واستعادتها مع إضفاء مقومات الاستدامة والصمود عليها، من أجل تجنب مخاطر الكوارث أو التقليل من حدتها في المستقبل.
على حين تعرفه بعض الدراسات بأنه عملية متعددة الأبعاد يتكامل فيها الإعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي مع الإعمار العمراني للوصول إلى إعادة بناء شاملة للمجتمعات في أعقاب الحروب، وعلى الرغم من اتساع التعريف الثاني واشتماله على الجوانب الاجتماعية، فإنه كلاهما أحادي البعد حيث يشتركان في إهمال الجوانب الثقافية والنفسية المتعلقة بإعادة بناء الإنسان الذي دمرته آلة الحرب.
وإذا ما نظرنا في هذين التعريفين نجد أن ما تحتاجه غزة بعد الحرب هو إعمار ذو طبيعة مزدوجة لا يقتصر على البنيان وإنما يطال الإنسان سواء بسواء، وقبل أن نفصل في طبيعة ذلك ينبغي الإشارة إلى مسألتين أساسيتين:
الأولى: إن عملية إعادة الإعمار ليس لها صيغة واحدة فما يحتاجه مجتمع ما ربما لا يحتاجه مجتمع آخر حسب حجم الدمار وحسب مكونه الثقافي، وبالتالي فإن اعتماد صيغة واحدة وهي الصيغة التي اتبعتها الولايات المتحدة في ألمانيا واليابان التي تركز على الجوانب الاقتصادية والأمنية وتعميمها على بقية الدول لن يفضي إلا إلى الإخفاق، كما حدث في العراق وأفغانستان اللتين لم تحقق فيهما سياسات إعادة الإعمار إلا الإخفاق بسبب تجاهلها للخصوصية الثقافية للمجتمع واحتياجات أفراده.
الثانية: شهدت مدينة غزة من قبل بضع محاولات لإعادة الإعمار كان آخرها منذ عامين عقب عملية «سيف القدس»، وانخرطت فيها جهات دولية مثل الأمم المتحدة، وإقليمية ممثلة في مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، وقد باءت جميعها بالفشل لأسباب مختلفة، من بينها: إشراف «إسرائيل» على عملية إعادة الإعمار ومنحها سلطة تحديد أولويات المدينة من السلع والبضائع والمواد الخام، وتراجع المانحين الدوليين عن سداد التزاماتهم المالية التي تعهدوا بها، ورفض المؤسسات الدولية التعامل مع حركة «حماس» والمؤسسات الاقتصادية المحلية في غزة وإيثارها التعامل مع الشركات الدولية الأمر الذي أضعف الاقتصاد المحلي.
وعلى هذا، فإن عملية إعادة الإعمار المقبلة يجب أن تتلافى سلبيات عمليات إعادة الإعمار السابقة، وأن تصمم بحيث تعبر عن احتياجات أهل غزة في بعديها المادي والمعنوي، وذلك على النحو التالي:
– البعد العمراني: وهو الركيزة الأساسية لعملية إعادة الإعمار ويستهدف إعادة إعمار نسيج المدينة والفراغات العمرانية والمباني السكنية ومباني الخدمات وشبكة الشوارع والطرق.
ورغم الطابع المادي للعمران، فإن المدخل العمراني الناجح يتميز بالأساس في مراعاته لاحتياجات السكان الأساسية وللطابع الإنساني لمدينة غزة، بمعنى أن خطة إعادة الإعمار ينبغي أن تحترم خصوصية المكان وتراثه على نحو يؤدي إلى استعادة هوية المكان ببناء الدور المتهدمة وفق النسق المعماري القديم لها لا خلق هوية جديدة له تقطع مع الماضي وتكرس للحداثة ببناء ناطحات سحاب ومولات تجارية.
– البعد الاقتصادي: وهو مدخل رئيس لإعادة إعمار غزة؛ لأن الحرب عادة ما تؤدي إلى تدمير الاقتصاد أو إلحاق أضرار بنيوية به؛ وبالتالي تتأثر الحركة التجارية والنشاطات الصناعية والزراعية؛ وهو ما يزيد من فرص التعطل والبطالة ويرفع معدلات الفقر، وعلى هذا يصعب تصور إعادة الإعمار من دون إعمار اقتصادي شامل أو جزئي في مجالات الزراعة والصناعة والثروة السمكية وغيرها.
– البعد الاجتماعي: وهو بُعد حيوي في حالة غزة التي عانت من حرب شوارع طاحنة طالت كافة أفراد المجتمع من رجال وأطفال ونساء وعجائز، ولم يقتصر أثرها على المحاربين أو المنخرطين فيها، وإحدى أولويات هذا المدخل إعادة دمج المحاربين ضمن البيئة الاجتماعية، إذ إنهم ليسوا مقاتلين في جيش نظامي يتلقون رواتب، وإنما هم عناصر مدنية انخرطت في حركة مقاومة مسلحة، وإعادة بناء مؤسسات التعليم والصحة لسد احتياجات المجتمع في هذين القطاعين.
وتعتبر قضايا التراث والهوية أبرز القضايا التي تندرج تحت البعد الاجتماعي، ذلك أن التخوف من فرض هوية جديدة للمدينة أو تزوير تاريخها وضياع تراثها يعد من أبرز هموم الإعمار، وقد لمح إلى هذا المتحدث باسم «كتائب القسام» عندما أشار إلى أن الاحتلال استهدف تدمير مساجد المدينة بحيث لم يعد يرفع فيها الأذان من المآذن، وأشارت الإحصاءات إلى أن نحو ألف مسجد من مساجد غزة البالغ عددها 1200 مسجد قد دمرت، وبالتالي هناك حاجة قصوى لإعادة بناء المساجد التي دمرها الاحتلال وإعادتها إلى سابق عهدها.
– البعد النفسي: وهو لا يقل أهمية عن الأبعاد السابقة، ذلك أن مشاهد القتل والحرق وجرائم الحرق المكثفة التي شاهدها أهل غزة وخاصة الأطفال تفضي حتماً إلى ظهور اضطرابات نفسية مزمنة مثل اضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، الأمر الذي يهدد الأمن النفسي للمجتمع، ولأجل تجاوز ذلك يجب توفير الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من الحرب، والعمل على إعادة تأهيلهم عبر برامج متخصصة لأجل تجاوز الصدمة واستعادة السلام النفسي.
وفي الأخير، يظل تنفيذ عملية إعادة إعمار ناجحة رهناً بأن تمول عبر صناديق الوقف والزكوات الأهلية الإسلامية، وتجنب التمويلات الدولية -ما أمكن- التي تضع شروطاً مجحفة على عملية الإعمار وتجعل من «إسرائيل» رقيباً ومشرفاً عليها.