مثلت وفاة شيخنا الجليل عبدالمجيد الزنداني مصاباً جللاً وفقداً وخسارة لليمن والأمة الإسلامية في ظرف هي أحوج ما تكون لرجل عظيم مثله، رغم فداحة المصاب لا يسعنا إلا أن نقول ما يرضي ربنا وما أوصانا به في كتابه: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وما أوصى به نبينا عليه الصلاة والسلام: «اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً».
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعيـر
ولكن الرزية فقـد شهـم يموت بموته خلق كثيـر
وأستاذنا الوالد المربي غنيٌّ عن التعريف، لكنَّني ومن باب حقه عليَّ أرى أن أطرح نقطة لفتت نظري من زمن، وهي مدى تجسيد الشيخ الزنداني للمناقب والخصائص التي وردت في الأحاديث النبوية في أهل اليمن ومدى تحققها في شخصيته، وسوف أتناول إشارات سريعة موجزة وردت في حديث نبوي واحد مشهور في الثناء على أهل اليمن وفضائلهم، التي أعتقد، في رأيي المتواضع وعلمي القاصر، أن أكثر شخصية يمنية يمكن أن ينطبق عليها الحديث في العصر الحاضر هو شيخنا الزنداني، رحمه الله.
وهذه الإشارات مقصدها أمران:
الأوَّل: مِن باب الوفاء الواجب علينا لشيخنا بعد وفاته، وكنَّا نتحرَّز الثناء عليه في حياته، فإنَّه كان يغضب لذلك ويكرهه.
الثاني: مِن باب فقه تطبيق الحديث النبوي ومصداقيَّته على الواقع والمجتمعات والدول والأفراد، وهو جزء مِن علم الأخبار الغيبيَّة التي أخبر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّها تقع بعد وفاته.
هذا الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هُرَيرَة عن رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: «أَتَاكُم أَهلُ اليَمَن هُم أَرَقُّ أَفئِدَةً وأَليَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ والحِكمَةُ يَمَانِيَةٌ»، وفي رواية لمسلم: «جَاءَ أَهلُ اليَمَنِ هُم أَرَقُّ أَفئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ والفِقْهُ يمَانٍ والحِكمَةُ يَمَانِيَةٌ».
وابتداء مِن باب إزالة اللبس في الفهم الذي قد يقع لدى بعض أهل النوايا الخاطئة، وإغلاقًا لباب التصيُّد مِن بعض أهل النوايا السَّيِّئة، فإنَّ الثناء في الحديث كما هو واضح عامٌّ في أهل اليمن، وليس خاصًّا بفرد ولا بقبيلة، والصفات التي ذُكِرت في الحديث مِن ألفاظ العموم التي تشمل كلَّ يمني في أيِّ عصر تنطبق عليه، فمَن اتَّصف بها اندرج في مقصود الحديث.
ويحقُّ للناظر والمتأمِّل في أحوال الناس في أيِّ زمان ومكان أن ينظر إلى أحوالهم وصفاتهم ومدى تطابقها وقربها وبعدها مِن هذه الصفات الواردة في الحديث، وهذه عادة أهل العلم والدعوة في كلِّ زمان ومكان، وتلك هي الحكمة السامية مِن نصوص الشرع وأحكامه أن تتجسَّد حقائق في واقع الناس أفرادًا وجماعات.
ومِن ذلك على سبيل المثال في حال الأفراد وصف عبدالله بن مسعود لمعاذ بن جبل رضي الله عنهما بأنَّه: «كان أمَّة قانتا لله..»، وقد ذكر القصَّة علماء التفسير وغيرهم، مثل الطبري وابن كثير، عند تفسير قوله تعالى: (إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120)، عن ابن مسعود أنَّه قال: «إنَّ معاذًا كان أمَّة قانتًا لله حنيفًا»، فظنَّ مَن كان حاضرًا أنَّه غلط في الآية، فقال له: إنَّما قال الله: (إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..)، فقال: «أتدري ما الأُمَّة وما القانت؟»، قلت: الله ورسوله أعلم! قال: «الأُمَّة الذي يعلِّم النَّاس الخير، والقانت المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ معلِّم الخير وكان مطيعًا لله ورسوله».
أمَّا بشأن انطباق الحديث على الشيخ عبدالمجيد الزنداني، رحمه الله، فمِن أوجه:
أوَّلًا: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: «أرقُّ أفئدة وألين قلوباً»:
فقد تواتر واستفاض ممَّن عاشر الشيخ أنَّه كان صاحب قلب رقيق عند سماع القرآن الكريم، وظهر ذلك أكثر في صلاته، فقد كان سريع الدمعة، شديد البكاء، نشيجه لا يخفى، وأزيز صدره يهزُّ مَن يُصلِّي بجواره.
ومن ذلك أن بعض مَن رافقه في حجٍّ أو عمرة لاحظ العجب العجاب مِن الشيخ في أداء المناسك، مِن حيث استشعار المعاني الروحية، وحضور القلب، والخشية والبكاء، حتى قال أحدهم: شعرنا معه أنَّنا جهلاء بحقيقة الحجِّ والعمرة، وما تعلَّمنا الحقائق إلَّا مِنه.
ومِن لين فؤاده أنَّه كان ليِّنًا سهلًا رفيقا متواضعًا مع الناس عامة ومع الدعاة والعلماء خاصة حتَّى المخالفين له، وذلك مما اشتهر عنه، فقد كانت حفاوته بهم وكرم ضيافته لهم لا مثيل لها، والبشر والابتسامة وأسارير وجهه وفرحه بهم لا حدود له.
ثانيًا: قوله عليه الصلاة والسلام: «الإيمان يمان»:
يعتبر الشيخ الزنداني عند الكثير في عصرنا مجدِّد علم الإيمان، وصاحب الإحياء لحقائقه، فكتبه ومحاضراته ودروسه كانت تنصبُّ على الجانب الإيماني، مفاهيمه وأسسه وأصوله، وبراهينه وأدلَّته وحججه، خاصَّة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة.
وميزة منهجه الإيمانيّ أنَّه يجمع بين النقل والعقل، بأسلوب يفهمه العاميُّ البسيط في الريف والمثقَّف النخبوي في المدينة، بل ويجعل المتخصِّص في الجانب العلمي الأكاديمي في الطبِّ وغيره في جامعته أو مختبره أو مرصده يعجب كيف يتحدَّث هذا الشيخ بهذا العلم، ويعيد النظر فيما عنده مِن علم، بل كان بعض علماء الطبِّ أو الفلك أو الطبيعة مِن غير المسلمين يقتنع ويعتنق الإسلام لسماعه هذه البراهين والأدلَّة، كما حدث ذلك مع عدد مِن علماء الغرب في لقاءات الشيخ بهم.
وما زال الكثير يذكر أنَّ الشيخ ذكر قصَّة أحد مثقَّفي الغرب أراد أن يسأل عن الإسلام فذهب لزيارة عدد مِن العلماء في البلاد العربية، ولم يقتنع بأحد مِنهم، فلمَّا زار الشيخ عبدالمجيد انبهر لطرحه ودخل في الإسلام بعد جلسة واحدة فقط.
ثالثًا: قوله عليه الصلاة والسلام: «والفقه يمان»:
والمقصد النبوي بالفقه هنا الفقه في الدين بمعناه العام، وليس بمعناه الخاص الذي اصطلح عليه العلماء في العصور المتأخِّرة، الذي يقصد به فقه الفروع، والفقه بمعناه العام هو المقصود في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
فيدخل فيه كلُّ جوانب الإسلام، ومِنها العقائد والعبادات والأخلاق والاجتماع والاقتصاد وغيرها، ويدخل فيها مقاصد الشريعة وأسرارها وأصولها وكلياتها، ولذلك اشتهر عن بعض العلماء السابقين تسميتهم لعلم العقيدة بالفقه الأكبر، كما عرف ذلك عن الإمام أبي حنيفة، وله كتاب في ذلك سمَّاه «الفقه الأكبر»، وقد كان الشيخ الزنداني مجدِّد هذا الفقه، فقد أعاد الدين إلى حقيقته القرآنية «الإيمان» بعد أن طغى مصطلح «العقيدة» و«التوحيد» وغيرها مِن المصطلحات التي هي صحيحة في ميدان العلم والتعليم، غير أنَّ مصطلح «الإيمان» مصطلح قرآني أصيل، فهو الأولى.
ومِن فقه الزنداني في الإيمان أنَّ منهجه الذي سار عليه هو المنهج الصافي الأوَّل في القرآن والسنة، والذي عرفه الصحابة رضي الله عنهم، وتربَّوا عليه قبل ظهور علم الكلام والفلسفة وانتشار الفرق الضالة والمنحرفة، ومِن فقه الشيخ فهمه العميق لروح الإسلام ومبادئه، وأصول الشريعة ومقاصدها وكلِّيَّاتها، ويتجلَّى ذلك في المشاريع العلمية والدعوية والسياسية والاقتصادية التي أسَّسها أو ساهم فيها، مثل جامعة الإيمان وهيئة الإعجاز العلمي وغيرها.
رابعًا: قوله عليه الصلاة والسلم: «والحكمة يمانية»:
تتجلَّى الحكمة بمعانيها وأبعادها المختلفة في شخصية الشيخ الزنداني، في جهوده وحركته العلمية والدعوية وتعامله مع الآخرين، فكلُّ مَن عرفه وعاشره وتعامل معه وحضر دروسه أو تتلمذ على يديه أو سمع كلامه عرف أنَّه رجل حكيم مِن الطراز الأوَّل، ومِن ذلك على سبيل المثال:
– حكمته في أسلوبه العلمي والدعوي.
– حكمته في تعامله مع الناس عامَّة.
- حكمته في تعامله مع الدعاة والعلماء والجماعات الإسلامية وجهوده في جمع كلمتهم.
– حكمته في الميدان السياسي مع الدولة والأحزاب السياسية.
– حكمته في تعامله مع قضايا الاختلاف العلمي والدعوي والسياسي.
– حكمته في الحوار والإقناع وطرح الحجج العقلية والمنطقية، وله في ذلك مواقف عجيبة.
ولذلك، كان أهل الرأي والنُّهى، مِن قيادات الدولة ومشايخ القبائل ورؤساء الجماعات الإسلامية والأحزاب السياسية، في اليمن وخارجها، يهتمُّون برأيه ويحترمونه، حتَّى ولو اختلفوا معه أحيانًا، لمعرفتهم بحكمته وصدقه وإخلاصه، وتلك منَّة ربَّانية خصَّه الله تعالى بها: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب) (البقرة: 269).
وللشيخ قصة مع هذا الحديث سمعتها منه، ولعل لها دوراً في محاولته تجسيد تلك المواصفات الواردة في الحديث في شخصيته، وهي أنه عندما زار أحد البلدان -أظنه باكستان– والتقى بعلمائهم فذكروا له هذا الحديث النبوي في الثناء على أهل اليمن، وهم في حال من الإعجاب والغبطة، ويتمنون لو كان لهم حديث مثله، حتى قال بعضهم للشيخ مداعباً: هل ممكن نشتري منكم هذا الحديث يا أهل اليمن؟ فقال لهم: اطلبوا ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قاله وليس نحن، من باب رد الدعابة بمثلها.
ختامًا، ما أوردته هنا محض اجتهاد مِنِّي في تنزيل الحديث على بعض الأعيان، وهو قابل للصواب والخطأ، ومنبعه الوفاء للشيخ، والذي قد تشوبه عاطفة ومودَّة، وحسبي النية الحسنة.
علم ودعوة وجهاد وهجرة
تعرف على المسيرة الحافلة للشيخ العلامة عبد المجيد #الزنداني رحمه الله.#الزنداني_في_ذمة_الله pic.twitter.com/trsTGPDglh— المجتمع (@mugtama) April 23, 2024