هل آن الأوان لفتح ملف الفنون والثقافة الإسلامية ومحاولة خوض غمارها بجرأة وقوة، أم أن الأمر تأخر كثيراً عما كان يجب أن يكون؟ هل هي مجالات جديدة يجب خوض غمارها لاعتبارات كثيرة منها تجديد الخطاب الدعوي وتدوين التاريخ بوسيلة تناسب العصر وصناعة تليق بالمسلمين الذين تغيبوا عن الساحة طويلاً، وآن لهم إثبات وجودهم، أو إثبات حياتهم بلغة تحمل أخلاق تراثهم التاريخي والفني العميق والطويل؟ هل يجوز، أو يحرم مجرد الحديث في هذا المجال الذي تخلفنا عنها فتركنا الساحة ليدنسها آخرون لتكتسب سوء سمعة فينفر منها كل صاحب ضمير ويتوب عن الاقتراب من المجال دون محاولة تغييره أو تطويعه لتقديم الفن الأصيل وليس البديل، فالأصل في الأشياء الانطلاق من الفكر الإسلامي كثابت من ثوابت أي عمل إنساني؟ هل نقترب ونكسر القواعد التي وضعها غيرنا؟ أم نبتعد من باب سد الذرائع وتحريم المباح الذي يمكن أن يكون فريضة بحكم الواقع والحاجة؟
ملف شائك قديم حديث في ذات الوقت، نحاول فتحه ومواجهة أبعاده.
قِدَم الفكرة وحداثة التنفيذ
إن الحديث عن الفن ليس مجالاً جديداً نفتحه اليوم، وإنما هو حديث وفعل قديم اعتمدته الشعوب عبر التاريخ لتدوين تاريخها من خلاله، فما التراث الفني المنتشر بكل أنحاء العالم القديم إلا نوع من استخدام الفن في حفظ التاريخ والهوية وثقافة البلدان، وعلامة على عمق الحضارة وضوابطها وخصوصيتها، وحظيت الحضارة الإسلامية التي تركت آثارها شاهدة حتى اليوم باهتمام رسمي لدول الخلافة الإسلامية عبر فنون العمارة خاصة في المساجد لتوضح الاهتمام البالغ لكل حاكم على إثبات حضوره أو وجوده بالاهتمام والمبالغة في عظمة تلك الآثار.
وتشهد عواصم الخلافة مثل دمشق وبغداد والقاهرة والأندلس بمدنها كافة ليس على عمق الاهتمام وحسب، وإنما على أخلاقياته واستناده إلى جملة القيم الإسلامية وروعتها، وهو ما يمثل فارقاً كبيراً بينه وبين الفنون التراثية المعمارية الأخرى كاليونانية والرومانية التي اعتمدت على التعري وإشباع الغريزة، وتظهر واضحة في التماثيل المنتشرة في أوروبا خاصة إيطاليا واليونان.
فالفكرة، إذن، قديمة قدم شعوب الأرض وليست مستحدثة ولكن بصورة مختلفة تتلاءم والفكر السائد في كل حقبة زمنية، ففي وقت تتألق الفنون المسرحية، وفي وقت آخر يسود الفكر التصويري وفن الرسم، وفي أخرى يسود فن النحت وهكذا، وفي هذا يقول أ.د. محمد كريم الساعدي(1)، عبر موقعه: «إنَّ فهم الحياة وفق التصورات المختلفة التي لا تخرج عن دائرة الفن ساهمت في إعطاء الإنسانية إمكانية اكتشاف مساحات أخرى من المعرفة، سواء أكانت المساحات متفق عليها في التوجهات، أو مختلف عليها في رسم الملامح المستقبلية للفرد، كون الفن ساعد في تدوين التاريخ منذ البداية في الحضارات الأولى، وكذلك ساعد الإنسان في تجميل حياته منذ قدم العصور الأولى وإلى الآن، فالرسم على جدران الكهوف وتدوين شكل الحياة بزخارفها وما يبتغيه الإنسان في البدايات الأولى، أصبحت البداية مهمة في تشكيل الوعي لدى الإنسان من أجل إنتاج معرفة أولى تلتها مكملات أخرى أضافت لهذا الوعي منافذ أخرى أنتج من خلالها الإنسان صوراً للتفكير بما هو آت من مستقبل حاول فيه توظيف كل ما أضافه الفن».
فالفن ذاكرة تاريخية هي الأقرب للتكوين الإنساني، ولذلك فهي الأقرب كذلك للجمع بين الشعوب المختلفة.
الحركة الإسلامية.. والمجال الفني
لا يخفى على أحد كيف أن الحركة الإسلامية المعاصرة بالرغم من الكم الثقافي المعقول الذي خلفته على أرفف المكتبات، فإنها لم تستطع خوض تلك المسألة بقوة لاعتبارات سياسية في معظم جوانبها، إلا من محاولة يمكن أن تتصف بأنها ضعيفة لعدم استمراريتها، ومما نشر في هذا على الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين تحت عنوان «مسرح الإخوان»: «لم يقف الإمام من الفن مجرد المنظِّر أو مبدي الرأي الفقهي، أو الداعي نظريَّا إلى تبني الفن، دون الولوج إلى ذلك عمليًّا، بل ربما سبق عنده جانب التطبيق الجانب التنظيري، وليس معنى ذلك أنه لم يكن معنيًّا بذلك، بل لم يكن معنيًّا بالوقوف كثيرًا عند الإسهاب في التنظير، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء، وهذا ما حدث معه رحمه الله، فقد جعل للفن مساحة ليست بالصغيرة في دعوة الإخوان المسلمين، فأنشأ فرقة مسرحية -بل أنشأ فرقًا مسرحية- لعل أبرزها وأشهرها «فرقة القاهرة»، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقًا مسرحية، كشعبة «السيدة عائشة»، التي قدمت عددًا من المسرحيات للناس، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو خلقي، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي»(2).
وأما عن موقف الشيخ حسن البنا من الفن عموماً فقد قال: «إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع؛ لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف، وإنما يريدون أن يطهروهما من الشر والإثم، ويزيلوا أثرها السيئ المنصب على نفوس الشباب والفتيات، ولذلك فهم قد أعدوا للمسرح قَصصًا كريمًا وأدبًا رائعًا ومثلاً وتوجيهًا صادقًا»(3).
وانتهت علاقة الحركة الإسلامية عند عدم قدرتها على تحدي الواقع وفرض تجاربها وتطويرها لإحداث حالة وواقع خاص بها، فلم تستطع ترك تراث يمكن أن نطلق عليه الفن الإسلامي واندثر مع توقف التجربة، وعانت الحركة الإسلامية في بعض مراحلها من عداء بيّن مع المبدعين من داخلها، فكانت عامل طرد لا عامل جذب، وحدث ما يشبه الفصام بين فكر المؤسس البنا، وممارسات قادة تعرضوا لصدام كبير مع الأنظمة فأغلقوا المجال بحجة الحفاظ على التراث الأخلاقي.
وفي هذا يقول الباحث طارق رمضان(4): «ولذا من المهم للفكر الإسلامي المعاصر وللتجارب الإسلامية أنْ تسمع لقول النقاد الذين يرون أن علاقة الإسلاميين مع الثقافة والفن والأدب مليئة بالروادع الذاتية، وأنّ الجانب الفردي أو الشخصي في التجربة الإسلامية يبدو مصادراً أو متوارياً، وهو جانب لا يكتمل فن أو ترفيه دون الإعلاء من شأنه والثقة فيه، مثلما لا يكتمل إيمانٌ دون تجربة ذاتية خاصة، تعبّر عن اقتناع عميق يسمو بالنفس ويهذبها ويحررها».
فالحركة الإسلامية يجب أن تتعلم وتنفتح وتقدم نموذجاً أكثر تطوراً لنشر القيم التاريخية الواجب تدوينها بعيداً عن تاريخ البكائيات التي عرفت به، وتقدم نموذجاً مختلفاً بلغة جديدة، لغة تتفق وثوابت الإسلام في عزته وقوته ومجده وشرفه.
مشروعية الفن وضرورة خوضه بإبداع قيمي وثوابت أصيلة
تتعدد صور الفن وألوانه، لكن حكمها الشرعي واحد، وفي الغناء والموسيقى يفتي الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: «اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش، أو فسق، أو تحريض على معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل على حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن، والنغم، والتأثير؟ واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات، والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها، ويقول: ليس كل غناء مباحًا، فلا بد أن يكون موضوعه متفقًا مع أدب الإسلام وتعاليمه».
فالفن بألوانه، إذن، ليس محرماً في ذاته، وإنما نستطيع أن نقول: إن حرامه حرام، وحلاله حلال، وإذا كانت فنون العمارة هي المعبر الفني في زمن من الأزمنة لتوثيق القيم التاريخية، فاليوم يعتبر الفن المسرحي والسينمائي هو اللون السائد الذي يجب أسلمته، إن جاز التعبير، وتقديمه بصورة تقدم القيم التاريخية بعيداً عن القوالب المكتوبة التي أعرضت عنها الأجيال الحالية عن مطالعتها، ثم يدعي أصحاب الأمر أنما العيب في تلك الأجيال في الإعراض عن الكتاب الورقي لتغذية الجوانب الثقافية لديها وتعميق معارفها.
إننا في حاجة لعملية تطوير موسعة لنشر ثقافة المعرفة عبر الفن المقيد بالقيم الإسلامية الذي يخاطب الضمائر لا الغرائز، ويثير ملكة الإبداع واحتواء المبدعين لإطلاق قدراتهم الفنية دون خوف ودون رعاية تضمن لهم حياة كريمة كي يستطيعوا الإبداع دون خوف من الجوع.
لقد آن الأوان لتطوير الفكر الحركي الإسلامي، الحركي لا النظري بثورة فكرية كبرى تفجر الجديد انطلاقاً من الثوابت القيمية الأصيلة للدين الإسلامي الذي أبعدوه طويلاً عن الساحة الإنسانية ليعرفه العالم بلغته، لقد حُرم المسلمون، وحُرم العالم من مجال كان يمكن أن يؤثر بشكل مباشر في تقديم الإسلام بشكل يسير، وآن الأوان لتحويل الحلم لحقيقة يتبناها المهتمون مادياً وفكرياً.
_______________________
(1) أستاذ في جامعة ميسان، ومتخصص في الدراسات ما بعد الكولونيالية وجماليات الفنون، صدر له 8 كتب.
(2) عصام تليمة، نقلاً عن حوار تلفزيوني لصلاح عبدالمتعال، والمنشور بموقع إخوان ويكي.
(3) أنور الجندي، الإخوان المسلمون في ميزان الحق، دار الطباعة، ص38.
(4) أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في كلية اللاهوت في جامعة أوكسفورد.