1- افصل الجهتين وصِلْ بين الدارين في الحسبان:
لا بد على المؤمن بالله تعالى أن يستحضر الصلة بين الدارين؛ الدنيا والآخرة، وألا يَقصُر بصره على مجريات الدار الدنيا فتعمى بصيرته عما يترتب عليها في مجريات الدار الآخرة، وعليه بالتوازي أن يفصل بين جهته بوصفه عبدًا وما يتعلق بذمّته فيها من عبوديات، وجهة الرب تبارك وتعالى؛ أي ما يتعلق بمقام الربوبية والألوهية ولا يملك مخلوق التطاول إليه أو التدخل فيه ولا ينفعه الاشتغال بالتساؤل عن غيابها.
مثلًا، نجد أنه مهما عظم قهر متجبّر بغير حق في الدنيا، فعذاب الآخر أشد وأنكى وأبقى في الآخرة، بل وخالد غير مؤقت، وقد توعّدهم ربنا تبارك وتعالى في القرآن الكريم من بين ما توعّدهم، خمس مرات بقوله تعالى: (لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) (آل عمران: 88)؛ أي لا يمنحون استراحة من العذاب ولو مقدار سويعة أخذ النَّفَس، وهذا الوعيد وحده لا مثيل له في عذابات الدنيا التي مهما اشتدت تخف حينًا ويمنح صاحبها فرصة النَّفس!
وأما جمع الدارين في الحسبان في مصاب الموت مثلًا، فيعني أن الذي يبكي على الميت المؤمن بكاء حسرة على ما فاته في الدنيا من متعة أو عمر أو غير ذلك، يُسقِط من حسبانه أن الميت انتقل من دار دنيا بكل ما فيها من نعيم إلى دار خير منها لا حدّ لما فيها من نعيم ولا مثيل، وليس إلى قعر أرض مظلمة ينتهي عندها على شاكلة ما يتصور أهل الكفر ومن لا يؤمنون بالدار الآخرة! بل وارتفع إلى أكرم جوار وأوسعه رحمة وعفوًا.
2- اخشوشن وتخفّف من التنعّم:
إن المسلم الذي يبلغ به حب الهوى أن يكدّر عليه سائر يومه أو يوقعه في الشّقاق مع من حوله عدم وجود نوعه المفضل من الجبنة أو نقصان نصيبه من حلوى، حَرِيّ بأن يُدَكّ دكًّا عند أية نازلة! ولذلك كثر في أدبيات التزكية الشرعية الحث على الاخشوشان بمعنى التوسّط في عادات المعيشة، والحذر من المغالاة في التنعم وتعوّد الترف والدلال، فهذه كلها عادات مُفسدة للمرء في حال عافيته بما تُعوِّدُه الركود والخمول والكسل وإدمان اللهو، فكيف في حال ابتلائه؟!
عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: «.. وذروا التَّنعُّمَ، وزيَّ العجمِ، وإيَّاكم والحريرَ..»(1)، وجاء في شرحه للمحقق أحمد شاكر: «والتَّنَعُّمُ هو التَّرَفُ في المأْكَلِ والمَلبَسِ وطُرُقِ المَعيشةِ؛ لِأنَّ ذلك يَدعو إلى حُبِّ الدُّنيا والاستِرسالِ فيها، وقد يَجُرُّ إلى الحَرامِ؛ لِأنَّ الحَلالَ في الأغلَبِ لا يَتَّسِعُ لِلتَّنَعُّمِ، وقد يَكونُ هذا النَّهيُ مَحمولًا على المُبالَغةِ في التَّنَعُّمِ والمُداوَمةِ على قَصدِه، وهذا مِمَّا اختُصَّ به الكافِرونَ والفاجِرونَ والغافِلونَ والجاهِلونَ، كما قال تَعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة: 45)».
ولا يتعارض هذا المبدأ التربوي مع ما ثبت من دعاء المصطفى عليه الصلاة والسلام بالعافية والتعوذ من تحوّلها ومن زوال النعمة، ذلك أن مقصود النعمة في التصور الشرعي هو كل ما يعين في حفظ دين المرء وقيامه به من منافع الدنيا والآخرة، وليس النعم الدنيوية بذاتها، فالدعاء بدوام النعمة هو من الدعاء بحفظ الدين بالأساس، وإن من عُوفي في دينه لا يضره ما ابتُلي فيه من دنيا، ومن ابتلي في دينه ما تنفعه عافية الدنيا ونعمها كلها!
وكذلك لا يتعارض مع حسن الظن بالله تعالى، فإن الله تعالى أخبر عن ذاته العليّة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (لأنفال: 53)، فالنعمة هنا بنفس المقصود السابق، ثم يمكن، بل يقع أن يُبتلى مؤمن طائع بنقص في نعمة دنيوية، فيُنعِم الله عليه بتثبيته وحفظ دينه، ويجعل نقصه الدنيوي ذاك رفعة له وزيادة في النعمة الكبرى التي لا تعدلها نعمة في الدارين، وهي نعمة الإيمان التي يَسْلَم بها العبد من العذاب الخالد في الآخرة.
وإن نزعة الانغماس في الملذات الدنيوية وإدمان مظاهر التنعم وشدة التعويل على عالم الشهادة والمحسوس والمادي، وما يتبعه من ضعف أثر عالم الغيب وهيبة حضوره في النفس، وثقل مفاهيم الصبر والتأني والرسوخ العلمي في مقابل العجلة والتململ والكبسولات المعرفية.. كل ذلك من آثار مخالطة الثقافات الكافرة وتشرّب مفرداتها بالفرجة عبر مختلف الوسائط الإعلامية وإن لم يعش المرء في بلادهم، وتتصدرها الألعاب الإلكترونية والمسلسلات والدراميات! وفي الحديث: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا»(2)، ففيه دليل على أن الصاحب ساحب حقيقة، وأن أثر المخالطة والمعاشرة لثقافة يظهر في تصور أهلها لمغزى الحياة وموازين الطيبات فيها، وطبائع أرواحهم، ومدى غمس نهج معاشهم في مظاهر الدنيا وسطوتها عليهم، وإن كانوا عن كل تلك التفاعلات غافلين!
3- استخراج شكر النعم والاسْتِخْزاء من شَكَاوَى الحرمان:
مما يؤسف له أن يشهد المسلمون مصاب إخوانهم من جوع أو عطش أو تشريد، فينظرون لما بين أيديهم من نِعَم نظرة تذنب واستخزاء؛ أي يشعرون بالذنب والخزي لحصول النعمة لهم على حرمان إخوانهم منها، ويدفعهم ذلك التذنب لمختلف صور التعامل الخاطئة مع النعمة، بل ومع المنعم جلّ وعلا! فيحرمون أنفسهم طواعية منها بالكلية لفترة تعاطفًا، ثم يعودون لاستعمالها على مضض، وبين هذا وذاك يتأففون ويتحسّرون ويتجهّمون كل ما شهدوا النعمة!
والتعامل الصحيح يكون مع استعظام قيمة ما أنعم الله به من نِعَم، فيعلو في وجدان المؤمن تقدير المُنعم جل وعلا، حتى يَستخرِج العرفانُ حمدَ الله تعالى من صميم قلب العبد، كما عبر عن ذلك سيدنا علي بن أبي طالب رضي اله عنه، في قصة رويت عنه أنه سئل: «أتشرب الماء المبرد أم غير المبرد (زهدًا وتقشّفًا)؟»، قال: «بل أشرب المبرد، لأنه يستخرج الحمد من صميم القلب»، وصاغ الصاحب بن عباد المعنى في بيت شعر(3):
قَعقَعَةُ الثَلجِ بِماءٍ عَذبِ تُستَخرَجُ الحَمدَ مِن أقصى القَلبِ
وأما ما يستخزي منه العبد في المقابل، فهو التشكّي من الناقص وطول التتبع للمنقوص! فإن الذي لا يجد غير الخبز والإدام مثلًا، في حالٍ خيرٍ ممن لا إدام له، وكلاهما خير ممن لا خبز له، وهكذا، وينطبق هذا المنهج مع كل نعم الله تعالى الملموسة والمعنوية، مصداق وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُو أَجْدَرُ أَلَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»(4).
4- لا تُكَلَّف إلا نفسَك:
القاعدة الربانية التي لا تتخلف هي أن سعي كل امرئ سوف يُرى ويجازى يوم يُوقف أمام رب العالمين، ولا يظلم ربنا مثقال ذرة في الدنيا والآخرة، فليس عليك من حساب الناس من شيء، فهذا بينهم وبين الله تعالى، وإنما عليك نفسك أنت، بمعنى عليك أن تجتهد في القيام بكل ما يمكنك القيام به، وليس المقصود بها أن تنشغل بمصالحك وتلبية أهوائك وتصمّ آذانك عن أحوال الأمة وتلبية نداء الغوث حيث أمكنك! كيف و«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ، وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ»(5).
وإذن عليك، أيها المؤمن، أن تتأدب بأدب العبودية في التسليم لمشيئة الله تعالى في ملكه وتدبيره، وتعود على نفسك أنت بالتهمة في تقصيرها في حق الله وحق الأمة، بدل أن تجترئ على مقام الربوبية بالتهمة أو تتخصص في تصيد معايب غيرك، وسرد كل الأسباب التي أدت لانحطاط المسلمين مما لا يد لك فيها!
بل انظر لما في يدك من نعم فأدّ شكرها، وما عليك من واجب الوقت فقم به، وما في نفسك من طاقات مادية أو معنوية فاستثمرها، وما تستطيعه من خير فتصدّق بالقيام به، وما تستطيعه من شر فتصدق بالامتناع عنه.
والله تعالى وليّ كلّ مؤمن وحسبه وحسيبه.
___________________________
(1) مسند أحمد: مسند الخلفاء الراشدين، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث (301).
(2) سنن أبي داود: كتاب الصيد، باب في اتباع الصيد، حديث (2859).
(3) الزمخشري: «ربيع الأبرار».
(5) صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، حديث (7430).
(6) البيهقي: كتاب السنن الكبرى، كتاب الضحايا، جماع أبواب ما لا يحل أكله وما يجوز للمضطر من الميتة وغير ذلك، باب صاحب المال لا يمنع المضطر فضلًا إن كان عنده.