قال الله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) (النحل 9:2)، من أكثر العبادات على المسلم كلفة مادية وبدنية وأجل العبادات عند الله عز وجل هي عبادة الحج، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ويعود الحاج كيوم ولدته أمه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» (متفق عليه).
ومن الحجاج من يتماسك عن الوقوع في الذنوب بعد أدائه فريضة الحج محافظاً على شعائره التي أداها من إنفاق وسفر طويل وتوبة وطواف ورمي وصعود عرفات ودعاء ونحر، فلا تحدثه نفسه بمعصية الله عز وجل، وإذا غلبه هواه فسرعان ما يعود ويؤوب لرب العالمين.
ومنهم من ينسى ويسقط في براثن الشيطان وهوى نفسه ويكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، كما وصف رب العالمين، والثبات على الطاعة علامة قبول أي عمل، فكيف يحافظ المسلم على حجه فلا يغضب الله كي يكون حجه مبروراً؟
1- دوام التلبية: لقد ترك المسلم الحاج خلفه كافة متعلقاته الدنيوية في داره وبلاده، معلناً «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، فالتلبية التي كانت باللسان والجوارح والمال والجسد كله يجب أن تستمر في الحياة بالاستجابة لكافة أوامر الله عز وجل دون تكاسل، خاصة فيما يتعلق بالأخلاق وحقوق العباد، فلبيك اللهم صدقاً، ولبيك اللهم أمانة، ولبيك اللهم شهادة حق، ولبيك اللهم سائراً بين الناس بجبر الخواطر، ولبيك اللهم صدقة وزكاة وإنفاقاً وكرماً، ولبيك اللهم لإكرام الضيف والجار والأقارب، ولبيك اللهم براً بالوالدين، ولبيك اللهم في أمانة الزوجة والأبناء.
2- تعهد القلب بالتقوى: التقوى من أهم مقاصد العبادات، ومنها الحج، فيقول الله تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج: 37)، والحج رغم أنه أيام معدودات، فإنه يربي المسلم على التقوى، والله تعالى يقول في شرط قبول الأعمال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، ويصف الله تعالى حال عباده الصالحين فيقول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون 60).
3- تفقد حال العبد مع ربه بعد الحج: المسلم الذي يعبد ربه عبادة المواسم هو في حقيقة الأمر ليس مسلماً ربانياً، هو يعبد تلك المناسبات من دون رب العالمين، ومن علامة قبول أي عمل، كما قال الإمام النووي: «أن يكون الحاج بعد رجوعه خيرًا مما كان»، وهذه العلامة تتحقق بالحرص على الطاعة المواظبة على العبادات التي كان يقصر فيها الحاج قبل حجه، فكيف هو مع ربه؟ وكيف هو في خلواته؟ وكيف هو في عباداته البدنية والقلبية؟
4- المداومة على الاستغفار: قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشـرِك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» (رواه الترمذي).
والاستغفار لازم بعد كافة الأعمال حتى الطاعات منها خوفاً من التقصير أو اختلاط النوايا، وفي الحج يقول الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 199).
5- المداومة على الأعمال وإن قلت: في حديث عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قلَّ» (متفق عليه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، واعملوا أنه لن يدخل أحدَكم عملُه الجنة، وأن أحبَّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلّ» (رواه البخاري، ومسلم).
والعبرة ليست بالكثرة، وإنما بالاستدامة؛ فعن عائشة، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: «مَن هذِه؟»، قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِن صَلَاتِهَا، قَالَ: «مَهْ، علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا.. وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَا دَامَ عليه صَاحِبُهُ» (رواه البخاري).
والعبادات والشرائع إنما وضعت ليداوم المسلم عليها ولا تخص مواسم أو هوى ليتبعها وقتاً ثم يعرض عنها.
فالثبات بعد العبادات واجب كل مسلم مقبل على ربه كي لا يحبط عمله ويؤجر عليه، خاصة فريضة الحج التي وهب الله عز وجل لمن أداها بداية جديدة كطفل مولود على الفطرة دون ذنب.