ضرب القرآن الكريم المثل في تفقد الراعي أحوال الرعية بسيدنا سليمان عليه السلام، الذي سخر الله له جنوداً من الجن والإنس والطير، حيث قال عز وجل: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل: 17)، فكان سيدنا سليمان عليه السلام يراعي شؤونهم، ويتابع أعمالهم، ويتفقد غائبهم، وقد أوضح القرآن الكريم ذلك في قول الله تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) (النمل: 20)، إنه يتفقد طائراً من الطيور، غاب لحظات عن المملكة السليمانية، فإذا كان هذا تفقده للطيور والحيوانات، فكيف يكون تفقده للبشر الذين يعيشون تحت سلطانه ومسؤوليته؟!
إذاً لم تلهه مسؤوليته، واتساع دائرة مملكته، وكثرة العوالم التي تتبعه، عن تفقد الطير، وتولي الإشراف عليها بنفسه، فإن غيرها من باب أولى، بل إنه عليه السلام قام في زيارته هذه بسؤال دقيق عن طائر معين وهو الهدهد؛ مما يعني أنه على علم تام وتفقد كامل بأحوال مملكته وأخبار رعيته، وهذا هو التفقد المطلوب لأحوال الرعية، التفقد الذي لا يغفل شيئاً، ولا يهمل أحداً، ولو كان صغيراً.
معاني التفقد
التفقد لا يعني مجرد التفتيش من أجل التوعد بالأذى؛ وإنما يعني المتابعة والتدقيق بقصد التعرف على الأحوال، وحسن التعامل معها، فقد يكون التفقد دافعاً إلى المساعدة والمعاونة، كما قد يدفع إلى المحاسبة والمعاقبة.
أما الراعي فلا يقف عند الحاكم ورئيس الدولة -وإن كان الحاكم هو أول الرعاة- وإنما يعني كل مسؤول، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»، فكل من تولى مهمة معينة أو تولى رعاية أمر معين فهو راعٍ، وعلى هذا فإن كل واحد منا لا بد أن يكون راعياً على شيء.
وما من أحد منا إلا له مسؤولية هو مسؤول عنها، أو رعاية يرعاها، ولو لم يكن لأحدنا إلا نفسه يرعاها فإن هذه الرعاية هي أعظم الرعاية وأكبر المسؤولية.
أما الرعاية فهي مسؤولية عظيمة، يقف بها المسؤول للحساب يوم القيامة، حيث قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24)، وفي صحيح البخاري ومسلم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ».
وإن من أعظم واجبات الراعي أن يتفقد أحوال الرعية، فيسأل عن أحوالهم، ويتلمس همومهم ومشكلاتهم، ويلبي حوائجهم وطلباتهم، ويحفظ حقوقهم، ويتعاون معهم على أداء مسؤولياتهم، وينصح لهم، ويكثر لهم الخير ويقلل لهم الشر، مع حفظ حقهم في الإجلال والهيبة، والتعظيم والتوقير، ويحذر من الوقيعة في أعراضهم، أو الجرأة عليهم والتجاوز في حقهم.
ويمكن له أن يفعل ذلك بنفسه إذا تيسر له، أو ينتدب من يعاونه، فأحوال الرعية متقلبة ومشكلاتهم دائمة وتطلعاتهم قائمة وابتلاءاتهم متنوعة، فهم بحاجة إلى الرعاية المستمرة والمتابعة الدقيقة الدائمة.
أمثلة نبوية في تفقد أحوال الرعية
الأول: تفقد النبي أحوال رعيته الدينية:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: «مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟»، قالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنا، قالَ: «فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟»، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: «فمَن أطْعَمَ مِنْكُمُ اليومَ مِسْكِينًا؟»، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: «فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا؟»، قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ، إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ»، إنه صلى الله عليه وسلم يفتح أمام رعيته أبواب الخير والصلاح، ويرغبهم في الدخول إليها من خلال التأكيد على ثوابها وجزائها، وهو دخول الجنة.
الثاني: تفقد النبي أحوال رعيته النفسية:
أخرج الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبدالله أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لقيَه، فقال: «يا جابرُ، ما لي أراكَ منكسِرًا؟»، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، استُشهِدَ أبي وترَك عليهِ دينًا وعيالًا، فقال: «ألا أبشِّرُك بما لقيَ اللَّهُ بهِ أباكَ؟ إنَّ اللَّهَ لم يُكلِّم أحدًا من خلقِه قطُّ إلَّا من وراءِ حجابٍ وإنَّ اللَّهَ أحيا أباكَ فَكلَّمَه كفاحًا وقالَ: يا عبدي، تمنَّ عليَّ ما شئتَ أعطيكَ»، ففي الحديث متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لحال سيدنا جابر النفسية، وحرصه على معالجته لها.
وأخرج النسائي عن مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ -أي مات- فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا لِي لَا أَرَى فُلَانًا؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ»، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: «فَذَاكَ لَكَ».
الثالث: تفقد النبي أحوال رعيته الاجتماعية:
في صحيح البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله قال: كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، كُنَّا قَرِيبًا مِنَ المَدِينَةِ، تَعَجَّلْتُ علَى بَعِيرٍ لي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِن خَلْفِي، فَنَخَسَ بَعِيرِي بعَنَزَةٍ كَانَتْ معهُ، فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ ما أنْتَ رَاءٍ مِنَ الإبِلِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أنَا برَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بعُرْسٍ، قَالَ: «أتَزَوَّجْتَ؟»، قُلتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أبِكْرًا أمْ ثَيِّبًا؟»، قَالَ: قُلتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: «فَهَلَّا بكْرًا تُلَاعِبُهَا وتُلَاعِبُكَ»، ففي الحديث بيان لتفقد الرسول صلى الله عليه وسلم حال أصحابه الاجتماعية، ودلالتهم على ما يسعدهم فيها.
الرابع: تفقد النبي أحوال رعيته الاقتصادية:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ: «ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟»، قالَ: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: «أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي»، ففي هذا الموقف دليل على تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الأسواق الاقتصادية، وتوجيه أصحابها إلى ما فيه الخير والصلاح.
الخامس: تفقد النبي أحوال رعيته العسكرية:
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي مَغْزًى (غزوة) لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ»، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»، ففي هذا الموقف تأكيد على أن الغنائم لم تشغل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تفقد رعيته، حتى الذين نسيهم الناس ولم يهتموا بهم.
إن كل مسؤول عن أي عمل يجب أن يعلم أنه موقوف للحساب ومسؤول عن رعيته بين يدي الله تعالى، فعلى كل مسلم أن يتقي ربه عز وجل ويحفظ أمانته التي ولاه عليها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27).