لم يكن الصحابة يساورهم أدنى شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لأمته، وأن أقواله وأفعاله واجبة الاتباع، وأنه مرسل إلى الناس كافة في كل زمان ومكان، وكانوا لا يراجعونه فيما يأمر إلا ليتضح لهم هل هو اجتهاد منه؛ فيشاركونه الرأي، أو أنه وحي فيمتثلون أمره، وفهموا أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله على نحو ما ورد في كثير من الآيات التي تدعو إلى ذلك.
وقد عبر عن ذلك عروة بن مسعود، وهو يومئذ من المشركين مخاطبًا قريش: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكًا قطُّ يُعظِّمه أصحابُه ما يُعظِّم أصحابُ محمد صلي الله عليه وسلم، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له»(1).
– الأهواء السياسية والفكرية سبب التشكيك في السُّنة:
روى الصحابة سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أمانة؛ واتفق علماء السُّنة على عدالة الصحابة جميعًا حتى من شارك منهم في أحداث الفتنة التي نشبت بين عليّ، ومعاوية، رضي الله عنهما، وأنهم جميعًا مجتهدون، والمخطئ منهم في اجتهاده لا تسقط عدالته ولا تُردّ روايته.
بدأت حركة التشكيك في السُّنة النبوية على يد الخوارج والشيعة والفرق الكلامية من بعدهم؛ مما شجع كل من تضمر نفسه العداء للإسلام على إثارة مزيد من الشبهات حول السُّنة الصحيحة التي قام المحدثون بجهود كبيرة في توثيقها بأسلوب علمي بما لا يدع مجالاً للشك فيما حكموا بصحته من السُّنة، وقد ظهرت شبهات كثيرة أثيرت حول السُّنة النبوية في القرون الأولى من الهجرة، ومن أهمها:
– الطعن في عدالة الصحابة وروايتهم للسُّنة:
انعكس موقف الخوارج السياسي على موقفهم من السُّنَّةَ الصحيحة التي رواها الصحابة المخالفون لهم؛ فهم يُعدِّلون الصحابة جميعًاً قبل الفتنة ثم يُكفِّرون معظمهم بعد الفتنة وردوا أحاديثهم وأسقطوا عدالتهم، وجرحوا مروياتهم لرضاهم بالتحكيم واتباعهم أئمة الجور كما يزعمون.
واتجه الشيعة إلى تجريح أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وطلحة، والزبير، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ومن شايعهم من جمهور الصحابة ممن انغمسوا في اغتصاب الخلافة من عليّ، في زعمهم، ووصمهم بأوصاف لا تليق بعامة الناس، وأقاموا على ذلك مذهبهم برَدِّ أحاديث جمهور الصحابة إلا ما رواه أشياع عليّ منهم على أن تكون رواية أحاديثهم من طرق أئمتهم لاعتقادهم بعصمتهم في نظرهم، ولم يقبلوا من أحاديث أَهْل السُّنَّة إلا ما وافق أحاديثهم التي يروونها عن أئمتهم، وبذلك حكموا على أحاديث بالوضع هي عند المحدثين من أرقى طبقات الصحيح(2).
وذهب المعتزلة مذهبًا أكثر شططاً؛ فأسقطوا عدالة الصحابة؛ حيث ذهب واصل بن عطاء (ت 131هـ) من المعتزلة إلى القول بفسق أحد الفريقين في موقعتي «صفين» و«الجمل» دون تحديد الفاسق منهما، وإسقاط عدالتهم وما يُروى عنهم، وذهب عمرو بن عبيد المعتزلي (ت 144هـ) إلى القول بفسق الفريقين وأنصارهما وعدم قبول الرواية عنهما، وأخذ المعتزلة يرمون المُحَدِّثِينَ بروايتهم الأكاذيب والأباطيل، واتَّهم المُحدِّثُون أئمة الاعتزال بالفسق والفجور والابتداع في الدين والقول بآراء ما نزَّل الله بها من سلطان، بل اتهموهم بالزندقة(3).
وهكذا لقيت السُّنةَ الصحيحة من عنت الشِّيعة والخوارج والمعتزلة عناء كبيرًا، وكان لآرائهم الجامحة في الصحابة أثر كبير في اختلاف الآراء والأحكام في الفقه الإسلامي؛ فالطعن في رواية الصحابة هو الطريق لهدم السُّنة والتحرر من الشرع واتباع الهوى، فإذا سقطت عدالة الصحابة ورُدّ حديثهم، فعمن نأخذ حديث رسول الله؟!
– الطعن في أحاديث مقطوع بصحتها:
لقد فتح باب الطعن في رواية الصحابة الطريق واسعًا للتشكيك في أحاديث هي في أعلى درجات الصحة بحجة أنها خبر آحاد رواه صحابي واحد أو عدد قليل من الصحابة، وقد رد عليهم علماء السُّنة؛ فعقد الإمام الشافعي (ت 204هـ) فصلاً طويلاً في كتابه «الرسالة» لحُجيَّة خبر الآحاد؛ ويقول ابن عبد البرّ الأندلسي المالكي (ت 463هـ): «وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمت- على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماعٍ على هذا، وجميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافاً»(4).
– الطعن في حجية السُّنة كمصدر تشريعي:
ظهر في القرن الثاني الهجري قوم ينكرون حجية السُّنَّة، ويدعون إلى الاكتفاء بالقرآن وحده بحجة أن القرآن قد احتوى على كل شيء، فلا حاجة لنا بغيره، مستدلين لرأيهم بقوله سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89)، وقد تجاهل هؤلاء الآيات القرآنية التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله سبحانه: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 1).
وقد رد عليهم الإمام الشافعي بقوله: «لم أسمع أحدًا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسوله والتسليم لحكمه بأن الله عزو جل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا كتاب الله وسُنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وما بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله، ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت الخبر عن رسول الله تفرقًا متباينًا، وتفرق غيرهم ممن نسبته العامة إلى الفقه فيه تفرقًا»(5).
وناقش الشافعي أحدهم ورد عليه بأن الله تعالى أوجب علينا اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا عام لمن كان في زمنه وكل من يأتي بعده، ولا سبيل إلى ذلك لمن لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الأخبار؛ فيكون الله قد أمرنا باتباع الأخبار وقبولها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا بد من قبول الأخبار لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ فيه والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السُّنَّة(6).
وقد حكم العلماء على هذه الطائفة بالكفر، فيقول ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ): «ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن؛ لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة واحدة بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حدّ للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافرٌ مشرك حلال الدم والمال، وقد ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن اجتمعت الأمة على كفرهم»(7).
وتلك الشبهات التي أُثيرت حول السُّنة من الطعن في الصحابة، والطعن في أحاديث مقطوع بصحتها، وإنكار حجية السُّنة والاكتفاء بالقرآن هي نفسها ما رددها منكرو السُّنة في العصر الحديث بأسلوب مختلف.
__________________________
(1) فتح الباري: كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة، ج5، ص388، (2583).
(2) د. مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص133.
(3) المرجع السابق، ص151.
(4) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، 1387هـ، المقدمة، ج 1، ص2.
(5) الأُم، كتاب: جماع العلم، دار الفكر، بيروت، ط2، 1983، ج7، ص287.
(6) المصدر السابق، ج 7، ص288-290.
(7) الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1983، ج2، ص80.