شغلت مسألة التوكل على الله بمفهومه الشامل عقول العلماء وفتاواهم طويلاً، وذلك لالتباس فهم معناه عند البعض فيخلط بين التواكل وترك العمل بالأسباب، وبين التوكل على الله حق توكله بتقديم الأسباب بالجوارح، وتعلق القلب كاملاً بالله عز وجل، وفي وقت تمر فيه الأمة بمنحنى خطير تحتاج فيه للعودة لتصحيح المفاهيم الربانية والأخلاق الإسلامية كي تستعيد مجدها القديم، ولا عودة إليه إلا بالعودة لصحيح الدين ومنها فضيلة التوكل.
ويطلق التوكل في اللغة على التكفل، والاعتماد على الغير، وفي الاصطلاح الشرعي هو الأخذ بالأسباب في الظاهر والباطن، والاطمئنان إلى مسبب الأسباب، والاعتماد عليه، دون خوف أو قلق، والاستمرار في السعي لتحقيق رضاه تعالى، والرضا بما قضاه وقدّره، والإيمان بأنّه هو النافع والضار، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق)(1)، ويزخر كتاب الله عز وجل وسُنة رسوله بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تأمر المسلمين بالتوكل وتحضهم عليه كما أمرت الأنبياء ورسل الله من قبل، ومن ثم فقد أصبح لزاماً على كل مسلم أن يدرك المعنى الحقيقي للتوكل تبعاً للنص القرآني وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أولاً: التوكل أمر الله للأنبياء جميعاً:
يزخر القرآن الكريم بالأوامر الربانية بالتوكل لرسل الله جميعاً بشكل مباشر في نصوص واضحة، كذلك توجه نفس الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده، بل وجعل الله عز وجل التوكل شرطاً وعلامة للإيمان، وأمر موسى عليه السلام لأتباعه بالتوكل على الله في مواجهة الظالمين فقال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (يونس).
وفي مقام البراءة من الشرك وأهله والتوكل الكامل على الله في ذلك يقول تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (هود).
ونبي الله يعقوب عليه السلام ينصح أبناءه بالتفرق في الدخول على عزيز مصر متوكلاً على الله لحاجة في نفسه فيقول تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف: 67).
وعن حال الأنبياء في دعوتهم ومنهج التوكل فيها مع الأمم التي أرسلوا إليها يقول تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11} وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم).
ثانياً: التوكل خلق الرسول صلى الله عليه وسلم:
وأما حال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في كتاب الله فالآيات كثيرة تحمل الأمر والتوجيه لرسوله بالتوكل على الله والتسبيح والذكر والحمد، فيقول تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) (الفرقان: 58)، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحيمِ) (الشعراء: 217)، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل: 79)، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (الأحزاب: 3)، (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (الأحزاب: 48).
وفي معرض الإشادة بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تجاه البشر ثم أمره بالتوكل في تعامله معهم يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {159} إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران).
وفي مواجهة المشركين بالحجة، ثم توكيل الله عز وجل في مآلات مواجهتهم بظلمهم يقول رب العزة لنبيه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {36} وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ {37} وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر).
وفي الاطمئنان لجنب الله ووعده ومعيته والتوكل عليه يقول تعالى: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر).
وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون» (رواه مسلم).
ثالثاً: التوكل خلق المؤمنين جميعاً:
وأما عن المؤمنين فحاجتهم إلى التوكل على الله حق توكله أشد وأكبر، خاصة في وقت المحن والضعف، والإنسان بمفرده ضعيف، وبالله أقوى كثيراً، وقد جعل التوكل جزءاً من إيمانهم خاصة أولئك الذين حملوا مهمة الأنبياء وورثوهم في الدعوة إلى الله تعالى وإتمام رسالته للبشرية، فقال الله في أخلاقهم وسلوكهم وصفاتهم ومآلات توكلهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران).
وحين يضطر المؤمن لملاقاة العدو، وفي حالة الخوف من بطشه يوجه الله عز وجل عباده بحسن التوكل على الله فيقول عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة: 11).
وأما في وصف المؤمنين وشرط اكتمال إيمانهم فيقول تعالى رابطاً الإيمان بالتوكل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2).
وفي صفات المؤمنين كذلك يقول ربنا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {59} وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت).
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووُقيت وكُفيت، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي».
__________________________
(1) الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مجلة البحوث الإسلامية.