عن عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كلن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن» (رواه مسلم)، فكان النبي عليه الصلاة والسلام تطبيقاً حياً لكتاب الله عز وجل، ومن أخلاقه القرآنية التوكل على الله حق التوكل.
والسيرة النبوية تنبني في كافة أحداثها على شقي نجاح أي عمل؛ الأول: الإعداد الكامل باتخاذ كافة الأسباب الممكنة لضمان النجاح وتلافي كافة المشكلات التي يمكن أن تطرأ فجأة أثناء تنفيذ أي خطة، والثاني: التوكل الكامل على الله عز وجل وذلك بتسليم كافة النتائج لله تعالى والرضا بها واليقين بأن اختياره سبحانه هو الاختيار الأفضل وإن تنافى مع مقدمات العمل.
وبذلك استطاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أن يجمع بين إحكام العقل وتسليم القلب تسليماً مطلقاً لله عز وجل.
وبالبحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سوف نجد نماذج تدل على عبقرية التخطيط وبراعة التنفيذ، وفي ذات الوقت الإيمان النموذج الإيماني المطلق بالله سبحانه، منها:
أولاً: التخطيط والتوكل في الهجرة:
اتسمت خطة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة بالتخطيط العبقري لضمان وصول صاحب الدعوة لمكان آمن يستطيع من خلاله أن يضع حجر أساس دولته، وكان من أهم بنود هذا التخطيط:
– تثبيت أركان أرض المهجر قبل الانتقال إليها والاطمئنان لرغبة أهل المدينة في انتقال نبي الله إليها، وقدرتهم على حمايته وحماية دعوته إذا لزم الأمر.
– الاطمئنان إلى أن الهجرة والمنعة لن تمنعه من ممارسة مهامه الدعوية.
– اختيار الرفيق الآمن الحريص على الدعوة وصاحبها وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن آل بيته الذين شاركوا في الترتيب للهجرة مع الكتمان الشديد.
– اختيار التوقيت المناسب للخروج، وهنا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين حسن التخطيط والتوكل، فقد تفاجأ وأنت تبذل الأسباب لنجاح عمل ما أن الأسباب قد توقفت، وهنا يكون دور الإيمان والتوكل على الله تعالى، فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم الخروج ليلاً حتى لا تراه قريش المتربصة به حول منزله، فيأتي التوكل على الله ليخرج من بينهم وهو مطمئن تماماً إلى أن أحداً لن يراه وذلك بقدرة الله عز وجل، فبالرغم من اتخاذ كافة الأسباب لكن المؤمن لا يغفل رب الأسباب فهو الذي يحركها وهو سبحانه من يعطلها.
– اختيار فدائي شجاع يقبل النوم في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بدورين؛ الأول: أن يوهم قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال في فراشه، والثاني: أن يرد الأمانات التي كان يحفظها الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم.
– الاطمئنان إلى أن هناك من يزود الرفيقين بالطعام والماء قبل مغادرة مكة بشكل نهائي، بل والحرص على كيفية إخفاء آثار النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى لا تتبعهما قريش، ومع ذلك فقد وصلت قريش بالفعل لباب الغار، وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتوكل مرة أخرى.
يقول سيد قطب: إن معالم التخطيط كثيرة متنوعة في مشاهد الهجرة النبوية، هذا التخطيط المرتبط في كل جزئياته بالتوكل على الله تعالى، الذي بيده الأمر من قبل ومن بعد، قد صوره القرآن الكريم في مشهد يشع جمالاً، ويفيض على القلب إيماناً، ويجلب للنفس ثباتاً على هذا الدين، يقول الله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
فالسياق يرسم مشهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه: «إِذْ هُما فِي الْغارِ» والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق يجزع لا على نفسه ولكن على صاحبه، أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدمية لأبصرنا تحت قدميه، والرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: «يا أبا بكر، ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟»، ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس، وكانت الهزيمة للذين كفروا مع الذل والصغار(1).
ثانياً: التخطيط والتوكل في حروب الردة:
كان أبوبكر الصديق رضي الله عنه ألصق الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقربهم منه منزلة وتأثراً وسيراً على طريقه، ولذلك كان نهج الصديق رضي الله عنه كصحابي وخليفة للمسلمين هو نفس نهج النبي صلى الله عليه وسلم النبوي في الموازنة بين التوكل والأخذ بالأسباب، والمهمة الأولى للصديق كانت ردع المرتدين بسبب مسألة الزكاة وامتناعهم عنها، والله وحده يعلم ماذا لو تهاون أبو بكر في تلك المسألة؟ وماذا كان حال هذا الدين؟
وضع أبو بكر خطته التي بناها على التصدي الرادع لكل من تخلف أو رفض منع الزكاة واعتباره خارجاً عن الدين، فمن يرفض دفع الزكاة اليوم، غداً يتهاون مع الصلاة والصيام فيتفكك الدين ويفرغ من مضمونه، فكان الحزم والشدة مع هؤلاء أمراً لازماً.
وليس معنى ذلك أن يترك الأمر دون تخطيط للمواجهة بدعوى أنها قضية ربانية والله كفيل بهم وحقناً للدماء يجب أن نتجنب الحروب، لم يفعل أبو بكر ذلك، وإنما أعد للأمر عدته بتجهيز الجيوش أولاً، وتأمين المدينة ثانياً، بمعنى تأمين الجبهة الداخلية والجبة الخارجية جنباً إلى جنب، وقام في سبيل ذلك بعدة إجراءات، فيقول د. علي الصلابي في خطة تأمين المدينة:
– ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتَّى يكونوا على أكمل استعدادٍ للدِّفاع.
– نظَّم الحرس الَّذين يقومون على أنقاب المدينة، ويبيتون حولها، حتَّى يدفعوا أيَّ غارةٍ قادمة.
– عيَّن على الحرس أمراءهم: عليَّ بن أبي طالبٍ، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبدالرحمن بن عوفٍ، وعبد الله بن مسعودٍ، رضي الله عنهم.
– بعث أبو بكر إِلى مَنْ كان حوله من القبائل الَّتي ثبتت على الإِسلام مِنْ أسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردَّة، فاستجابوا له حتَّى امتلأت المدينة المنوَّرة بهم، وكانت معهم الخيل، والجمال الَّتي وضعوها تحت تصرف الصِّدِّيق، وممَّا يدلُّ على كثرة رجال هذه القبائل، وكبر حجم دعمها للصِّدِّيق: أنَّ جهينة وحدها قدمت إِلى الصِّدِّيق في 400 من رجالها، ومعهم الظَّهر والخيل، وساق عمرو بن مرَّة الجهنيُّ 100 بعيرٍ لإِعانة المسلمين، فوزَّعها أبو بكرٍ في النَّاس.
– ومن ابتعد من المرتدِّين عن المدينة، وأبطأ خطره؛ حاربه بالكتب، يبعث بها إِلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، يحرِّضهم على النُّهوض لقتال المرتدِّين، ويأمر النَّاس للقيام معهم في هذا الأمر(2).
_________________________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق (3/ 1656).
(2) الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور على محمد الصلابي، دار ابن كثير دمشق، ص 183.