ما المقصود بفهم القرآن؟
ليس المقصود بفهم القرآن هنا الإحاطة العميقة بكل ما ورد في كتب التفسير من أقوال، وإنما المقصود الفهم الصحيح للآيات ومعانيها حتى يعرف القارئ مغزى ما يقرأ وما المراد بما أنزل الله من كتابه على عباده، مع ضرورة الانتباه إلى الفارق العظيم بين جيل الصحابة والتابعين الذي كان يعرف اللغة العربية ومن ثم يفهم القرآن ومعانيه ومغازيه، وأجيالنا المعاصرة التي انقطعت صلتها بلغتها فصعب عليها أن تفهم كتاب ربها.
لقد نزل القرآن باللغة العربية، وكان هذا داعياً لسهولة فهمنا له نحن أمة العرب؛ ما يمثل لنا نعمة عظيمة اختصنا الله بها، ولأن وراء كل تشريف تكليفاً، فإن العرب سيحاسبون مرتين.. نعم مرتين! مرة لأن القرآن نزل إليهم، ومرة أخرى لأن القرآن نزل بلغتهم؛ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44)، وماذا عساه يفعل المسلم الهندي أو الإنجليزي وهو يقرأ القرآن وهو بغير لغته دون أن يفهم منه حرفاً واحداً، ومع هذا فربما كان خشوعه وحضور قلبه وجريان دمعه أعظم من حال مَن نزل القرآن بلسانهم!
وإليك هذا السؤال الكاشف لقوة صلتك بكتاب الله: هل إذا استوقفتك آية من كتاب الله أثناء قراءتك واستعجمت عليك، هل ترجع عندها إلى كتاب تفسير لتعرف معناها؟ أتكلف نفسك عناء مد يديك إلى مكتبتك لتتناول كتاب تفسير في سبيل الوصول إلى فهم معنى هذه الآية؟
لقد رحل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه شهراً كاملاً طلباً لحديث واحد في القصاص، بينما الواحد منا متكئ على سريره مستلق على ظهره بين يديه أكثر من كتاب تفسير، ومع هذا يكسل عن تناوله والنظر فيه!
وقد شبه الأمام أبو حامد الغزالي العاصي الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به بمن جاءه كتاب من الملك فطفق يكرر قراءته مراراً كل يوم، وقد أمره الملك بعمارة المملكة، ولكنه قد ترك عمارتها أو انشغل بتخريبها واقتصر على تكرار قراءة الكتاب، فلو ترك الكتاب عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء والمقت، نعم.. القارئ بلا فهم كالمستهزئ المستخف بكتاب الملك!
وإليك 10 كلمات أكثرها في الجزء الثلاثين الذي يحفظه أكثر المسلمين في صغرهم، ومع هذا فإن الغالبية العظمى لا تعرف معنى كثير من كلماته، ومنها:
1- يقرأ في سورة «الإخلاص»: (اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص: 2) فلا يعرف ما الصمد، وأنه الذي يصمد إليه في الحوائج، المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد.
2- يقرأ في سوره «الفلق»: (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) (الفلق: 3)، فلا يعرف معنى الذي حفظه وهو ابن 4 سنين أن الغاسق هو الليل، وإذا وقب؛ أي: إذا دخل ظلامه وانتشر.
3- يقرأ في سوره «الغاشية»: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (الغاشية: 16) في وصف نعيم الجنة فيحسبها كلمه أعجمية ولا يعرف أنها البسط المفروشة المنتشرة.
4- يقرأ في سورة «عبس»: (وَحَدَائِقَ غُلْباً) (عبس: 30) فلا يعرف أنها الحدائق كثيفة الأشجار.
5- يقرأ في «العاديات»: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (العاديات: 6) فلا يعرف أن الكنود هو الجحود الذي يعدد المصائب وينسى النعم.
5- يقرأ في «البلد»: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد: 17) فلا يعرف أن المسغبة هي المجاعة الشديدة ليبحث عن هذا اليتيم الجائع حتى يشبعه.
6- يقرأ في «الماعون»: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون: 2) فلا يعرف أن معناها يدفعه ويطرده.
وإذا كان هذا ما تجده في أكبر أجزاء القرآن حفظاً بين المسلمين، فما ظنك بباقي أجزاء القرآن وقد مر بك بعضها؟! كم من الآيات اليوم نقرؤها ولا نعرف معناها ولا نكلف أنفسنا مشقة البحث عنها؟!
ولقد شكا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من أن الكتاتيب أساءت إلى القرآن من حيث أرادت أن تحسن؛ حيث إنها أخرجت أشرطة مسجلة، ولم تُخرج كائنات حية، فقال رحمه الله في كتابه «مع القرآن»: إن هذه الطريقة في حفظ ألفاظ القرآن بدون فهم المعنى صرفتني عن معان كثيرة أمرّ بها ولا أعرفها وأنا كبير، ولأنني حفظت الكلام دون حفظ المعنى أجد نفسي في كثير من الأحيان أمضي دون فهم للمعنى؛ لأن الحفظ كان يغلب على التدبر أو على الوعي، وما إن بدأت أفكر حتى أكرهت نفسي على أن أدقق النظر في كل ما أقرؤه.
ويضيف: والحقيقة أننا لو تتبعنا قراءة الصحابة رضوان الله عليهم للقرآن وهم خير جيل تلقى وحي السماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأينا المنهج الصحيح في التعامل مع القرآن، ورغم أنهم كانوا أفصح الناس وأعرفهم باللغة، فإنهم كانوا يتوقفون عند كل آية ليعرفوا معناها ويتأكدوا من فهمهم لها للعمل بها.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
معرفة أسباب النزول
ومن تمام الفهم معرفة أسباب النزول للتأكد من فهم الآية في السياق الذي نزلت فيه والاستفادة منها بالعمل بها في واقع الناس على الوجه الصحيح، قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وسبب نزولها، وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية.
وقد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 188)، وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين، حتى بيَّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم واستحمدوا بذلك إليه. (أخرجه الشيخان).
وإليك مثالاً آخر يوضح أهمية معرفة سبب النزول في فهم الآية قال تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) (البقرة: 115)، فإنا لو استرسلنا مع مدلول اللفظ لاقتضى ذلك أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفراً ولا حضراً، وهو خلاف الإجماع حتى عرف سبب نزولها وعلم أنها في نافلة السفر أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ على اختلاف الروايات في ذلك ذكره الإمام السيوطي في «الإتقان».
ومثال ثالث قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة: 158)؛ فإن الآية ظاهر لفظها يقتضي أن السعي ليس فرضاً، وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكاً بذلك، وقد ردت السيدة عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بين الصفا والمروة لأنه من عمل أهل الجاهلية فنزلت الآية.
جهاد وجهد المفسرين
ولقد بذل علماء الأمة جهداً خارقاً في خدمتهم لكتاب الله، ومن ذلك جهودهم في تفسيره، ثم أودعوا حصيلة مجهودهم في صفحات كتبهم وأهدوها إلينا لقمة سائغة وثمرة رائعة دون أدنى جهد منا أو مشقة، ولم يبق على أمثالنا إلا تقليب الصفحات وإمرار العين على الكلمات حتى نصل إلى ما وصلوا إليه بالجهد والعرق والسفر والمعاناة.
اسمع مثلاً عالم التفسير مجاهد بن جبر وهو يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، وتأمل معي هذا المجهود الرائع للإمام مجاهد للاستفادة من حبر القرآن ابن عباس الذي مدحه ابن مسعود رضي الله عنه فقال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس! ويا ليتنا نتعلم من مجاهد الجلوس بين يدي أهل القرآن وحلق التفسير لنفهم من كتاب الله ما غاب عنا ونزداد فهماً فنزداد عملاً.
ويبقى لنا في ختام الكلام عن الفهم تحذيرٌ غاية في الخطورة؛ إما أن تقرأ تفسير الآية من كتاب معتمد من كتب التفسير، أو تمسك لسانك عن القول في القرآن بغير علم، ففي الحديث النبوي: «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار»، ولذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! وقال مسروق محذراً من أن تحركك فصاحتك وطلاقة لسانك أو اغترارك بنفسك واجتماع الناس عليك إلى القول في القرآن بغير علم، فقال رحمه الله: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
وهذا نهديه لمن تكلم في التفسير بغير علم، أما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فهو مثاب بإذن الله ما أخلص النية.
واجبك في إيجاز تجاه فهم كتاب الله:
1- لا عمل بغير فهم، فلا بد أن أفهم ما أقرأ حتى أعمل به.
2- إن مررت بآية لم أفهم معناها سأستعين بالله لكي أعرف معناها على الفور أو في نفس اليوم ما أمكن.
3- لن أتكلم في القرآن برأيي إلا أن يكون نقلاً عن عالم أو كتاب معتمد من كتب التفسير.
4- سأحرص على مطالعة كتاب من كتب التفسير أثناء قراءة القرآن للاستزادة من فهمي كتاب الله للفوز بأسراره ومن ثم التلذذ بتلاوته.
5- سأحرص على نقل فهمي للقرآن إلى غيري بطريقة مناسبة؛ كأن أبين معنى آية غامضة أو سبب نزول ناقلاً ذلك من كتاب تفسير صحيح.
6- إذا طلب مني إلقاء خاطرة حول آية أو سورة من كتاب الله فلا مجال للقول بما ليس لي به علم؛ إما معنى صحيح أنقله من مصدره، أو تذكير بواجب عملي تأمر به الآية.