منذ لحظة ميلاد الإنسان يتقلب بين نعم الله عز وجل وعطاياه التي لا تعد ولا تحصى، ومع مرور الوقت يعتاد الكثير هذه النعم، متناسيًا أن يؤدي واجب الشكر عليها، فبرغم من أن كثيرًا من الناس يقرون أنها عطايا من الله؛ فإن الإقرار وحده لا يلهب القلب بقوة عمل الشكر في اللسان والجوارح، وهنا تكمن الخطورة، فحين يصبح دوام النعم إيلافًا لها، فإنه يجعل النفوس غافلة عن شكر الله عليها وعلى دوامها، بل ربما ينحط الحال إلى جحودها وكفرانها، ولذلك وجبت الوقفة الجادة المتأملة لتنظر في حالها مع النعم وما تحتاجه من علاج حتى تنجو من إثم الغفلة شكرها.
1- مفهوم إيلاف النعم:
إيلاف النعم مفهوم يتلخص في غفلة القلب عن الوقوف على حقيقتها وأداء ما يجب تجاهها، وقد وصف القرآن الكريم حال قريش التي ألفت النعم حتى جحدتها، فقال تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش)، فالعجب كل العجب لمن ألف النعمة فلم تهده وتقربه إلى رازقها.
والمخيف في مرض إيلاف النعم أنه قد يزداد سوءًا حتى يظن العبد معها أنه قد أوتيها عن استحقاق وجدارة، وقد حكى الله عز وجل قصة قارون الذي كفر نعمة الله بدعوى أنه أوتيها لما حازه من علم، فقال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78)، ثم مصيره من الهلكة؛ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) (القصص: 81).
والعناية بمعرفة أعراض هذا المرض ضرورية لكي يُسارَع إلى علاجه، ومنها:
– الاستهانة بالنعم: كمن يظن أنها أمر طبيعي، فلا يتأمل في قيمتها أو يفكر في الحياة بدونها.
قلة الامتنان للمنعم: فعدم هذا الشعور يدفع إلى ترك شكرها.
– الشكوى: فالتركيز على الجوانب السلبية وما ينقص المرء بدلاً من التركيز على النعم الموجودة بالفعل مما يُعمي صاحبها عما أوتي.
– قلة الرضا: فالشعور الدائم بعدم الرضا رغم كثرة النعم يدفع للسعي وراء المزيد دون تقدير ما هو موجود بالفعل.
– الغفلة عن الذكر والدعاء: فعدم ذكر الله في الحياة اليومية وتجاهل دعائه بانتظام لا يُذكِّر بشكره عز وجل.
– الإسراف والتبذير: وذلك مثل استخدام النعم بشكل غير مسؤول أو تبذيرها دون التفكير في قيمتها أو عواقب فقدانها.
– إهمال النعم التي تبدو صغيرة: فإن التركيز على النعم التي تبدو كبيرة فقط وتجاهل غيرها يورث إيلافها.
هذه العلامات تشير إلى حاجة المرء للتوقف والتفكر في قيمة نعم الله عز وجل، ثم تهذيب القلب ليشكر الله تعالى على أدق نعمه، ومن ذلك سيفهم معنى الشكر، ثم يلتفت إلى كيفية أدائه.
2- مفهوم الشكر:
الشكر ليس مجرد لفظة تخرج من الأفواه كما يظن البعض، بل هي عبادة إيمانية يتفاوت فيها الناس حسب إيمانهم، فأصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة(1)، وبالتالي فهي تشمل الاعتقاد في القلب والقول في اللسان والعمل في الجوارح، كسائر معاني الإيمان، والناس متفاوتون في الشكر بمقدار قربهم وبعدهم عن هذا الذل والخضوع لله تعالى، وأكملهم من حققه على هذه المراتب:
– ففي الشكر بالقلب: أن يعظُم في القلب حب الله والخوف منه والرجاء فيه، فيثني عليه سبحانه وتعالى بحمده، ويعترف في خاصة نفسه بأن كل ما لديه هو محض فضل الله تعالى وعطائه، حتى يمتلأ قلبه شكرًا لله وثناء عليه عز وجل.
– وفي الشكر باللسان: أن يتعود اللسان على ذكر الله تعالى وحمده، وأن يردد دائمًا «الحمد لله» في كل حال، ويقرنه بـ«الشكر لله» في حال النعمة، فإن ذلك سبب في العافية من سلبها والبركة فيها.
– وفي الشكر بالجوارح: أن يعبر المرء عن شكره لله عز وجل بأفعاله وسلوكياته، وذلك باستخدام النعم في طاعة الله تعالى وفعل كل ما يحبه ويرضاه، ويجتنب استخدامها في معصيته ومساخطه.
والشكر واجب، فقد جاء الأمر به صريحًا في عدة مواضع من كتاب الله عز وجل، منها قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152).
3- كيف نشكر الله على نعمه؟
إذا ما دقق العبد النظر في حياته اليومية، سيجد أن النعم تحيط به من كل جانب، بداية ممن رزقهم الله نعمة الإسلام التي لا تعادلها نعمة، ومروراً بمن رزقهم نعمة الصحة والعافية، ومن رزقهم نعمة الأمن والأمان، ومن رزقهم نعمة المال، وغير ذلك كثير لا يعد ولا يحصى مما يجب على العبد شكره، ومن أهم ما يُعين على أداء شكر النعم ما يلي:
– التفكر والتأمل: ففي خضم الحياة المادية السريعة لا بد من التوقف قليلاً للتأمل في كل ما أنعم الله عز وجل على المرء، وهذه اللحظات مما تساعد على تقدير النعم وتدفع لمزيد من شكر الله عز وجل عليها.
– معرفة أن النعمة اختبار: فيذكر المرء نفسه أن هذه النعم امتحان وبلاء من الله له، قال الله تعالى يحكي حال سليمان عليه السلام: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 40)، فإن تعامل العبد مع النعم بهذا المنطلق مما يعينه على شكرها.
الصبر على الابتلاء: فمِن شكر الله عز وجل على نعمه الصبر عند البلاء، فرؤية آلاء الله وتذكرها يعين على الصبر والثبات، وكذلك رؤية العطايا في الابتلاء كرفع الدرجات وتكفير الذنوب، ويكمن الشكر في هذه الحالة بالصبر والاحتساب.
– البذل والعطاء: فإن التواضع لله والاعتراف بفضله برد كل النعم إليه من أدب العبد معه تعالى، وهو الذي يدفع إلى البذل والعطاء، فهو عطاء مما أكرم الله عز وجل به.
إن فالشكر عبادة عظيمة لا يجب أن يُغفل عنها، بل يُجاهد فيها حتى تُعاش بالقلب واللسان والجوارح، وليكون الدافع إليها دائماً أن الله يحب الشاكرين، وأنه وعد بأن سيجزيهم به، فليكن هذا المبدأ انطلاقة جديدة ووقفة جادة مع النفس، تراجع فيها التعامل مع نعم الله عز وجل، وتجدد العهد باللحاق بركب الشاكرين.
_______________________
(1) يراجع: طريق الهجرتين لابن القيم، ص 95.