يعد مفهوم العدل أحد المفاهيم المركزية في الفكر الإسلامي عامة، سواء في النصوص المرجعية أم في الفنون والعلوم الإسلامية المتنوعة، فقد جاء ذكر العدل في القرآن الكريم في سياقات متعددة، تتمايز هذه السياقات تبعًا لمعنى العدل المذكور فيها؛ فمنها ما جاء كأمر عام باعتباره صفة لله وفعله وأقواله وشرائعه وكتبه المنزلة وهكذا، ومنها ما جاء بمعنى خاص لأمر تفصيلي؛ كالأمر بالعدل في القضاء وعند الخصومة، وبين النساء، وعند القيام بشؤون اليتامى، كما جاء ذكر العدل كأمر تفصيلي في الحكم والولاية العامة على الناس، ويشيع في هذه المساحة عبارات، مثل: سياسات العدل، وأحكام العدل، والعدل في سياسات الملك وغيرها.
ويعود أصل العدل في اللغة إلى مصدر عدل يعدل عدلًا، وهو مأخوذ من مادة «ع د ل» التي تدل على معنيين متقابلين: أحدهما يدل على الاستواء، والآخر على الاعوجاج، أما إذا كان مصدرًا، فمعناه: خلاف الجور، وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، ولا يخرج العدل في معناه الاصطلاحي عن معنى الاستقامة على الحق، أو بذل الحقوق الواجبة، وتسوية المستحقين في حقوقهم، وقيل: العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وعرف أيضًا أنه الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط.
وعلى الرغم من تمحور مفهوم العدل حول معنى الاستقامة، وربما وضوحه على مستوى الحقوق الفردية والخصومات الشخصية، لكن العدل بمعناه السياسي يصعب تعريفه بشكل دقيق من حيث دلالته النظرية والإجرائية، وقد حاول البعض تعريفه فقال: إنه يعني الحكم بالحق، أو فصل الحكومة على ما في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد.
كما حاول بعض العلماء -كالغزالي، والشيرازي، وابن خلدون.. وغيرهم- تحديده بشكل نظري وإجرائي على مستويات عدة كالنفس والبطانة والرعية، فحدد الإمام الغزالي مثلاً للعدل والإنصاف في الحكم عشرة أصول ينبني عليها، هي: «معرفة قدر الولاية بأنها نعمة ومعرفة خطرها بأنه مسؤول عنها، والاشتياق أبداً إلى رؤية العلماء، وتهذيب الإمام لغلمانه وأصحابه وعماله ونوابه وحجزهم عن الظلم لأنه سيحاسب على ظلمهم، والميل إلى جانب العفو في حال غلب الغضب على الرعية نتيجة تكبر الحاكم وترفعه عنهم، والتعود على الكرم والتجاوز، وتسوية نفسه بالرعية فما لا يرضاه لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين، وعدم احتقار انتظار أرباب الحوائج نتيجة وقوفهم ببابه، وتعويد النفس على عدم الاشتغال بالشهوات والعمل بالرفق واللطف، والاجتهاد في أن ترضى عنه رعيته بموافقة الشرع، وعدم طلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع».
ثم خلص إلى القول: «وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه، وذلك ألا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه، بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه».
والسؤال هنا: لماذا العدل أساس الحكم في الإسلام؟
أولًا: الأصل الإلهي للولاية العامة على المسلمين، فالله هو صاحب السيادة والحكم، فوضها الله للرسول صلى الله عليه وسلم ابتداءً ثم لخلفائه من بعده؛ (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)؛ لذا نجد سيدنا أبا بكر الصديق في إرسائه لقواعد خلافته بعد مبايعته، يخطب في جموع المسلمين من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم».
وفي هذا إقرار بأن ولايته وسلطانه على المسلمين تستمد علة وجودها من الله سبحانه وتعالى صاحب السيادة المطلقة على عبيده، وإنما وجدت هذه الولاية لضمان تنفيذ أحكام الله والامتثال إلى أوامره وأداء الحقوق، وصيانة المجتمع وضمان حرية أفراده؛ أي أنها أقرب للوظيفة الاجتماعية المحددة بالحفاظ على النظام الاجتماعي القائم وفق إرادة الله، ومن ثم فالعدل أساس الحكم لأن علة وجوده تفويض إلهي، والله عدل، ثم هو تفويض بمهام محددة تعين الإنسان على طاعة الله واتباع دينه، وليس مطلقًا.
من جهة أخرى، في فاتحة خطبة استخلاف ومبايعة الصديق قال أيضًا: «أما بعدُ، أَيُّها الناسُ، فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني، الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ، والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه»، تتضمن هذه المقولة إقراراً آخر بعدم الخيرية المطلقة للوالي أو الحاكم، وإنما هي استثنائية بحكم ولايته، وصلاحيات تقابلها مسؤوليات، هذا الإقرار يعزز الفاعلية المجتمعية ويجعلها حاضرة طوال الوقت، وتتمثل هذه الفاعلية في عمليات الإعانة والتقويم؛ «أعينوني.. قوموني».
هذه الفاعلية شروطها المسبقة هي الشفافية والمساءلة، بمعنى أن المجتمع حتى يؤدي هاتين الوظيفتين فلا بد له من قنوات لمعرفة صحيحة ودقيقة بما يحدث في إطار الدولة وما تفعله نخب الحكم وتتخذه من سياسات، هذه الشفافية والمعرفة الصحيحة هي الخطوة الأولى في إيجاد آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة، ومن ثم دعم الفاعلية المجتمعية في تقديم العون وتقويم الخطأ، هذا الظهير المجتمعي القائم على وجود مناخ حر، يدعم الحاكم نفسه في تطبيق العدل فتنقلب موازين القوة والضعف الاجتماعية، ويصبح الحق هو المعيار، فالفاعلية المجتمعية، إذًا، شرط لتحقيق العدل، والعدل من جهته يحفظ على المجتمع وجوده وبقاءه.
المفارقة أنه في عالمنا المعاصر جل دول العالم الإسلامي -على هذا الميراث الضخم من التأسيس لقيم العدل والسياسة الشرعية- تتذيل قوائم مؤشرات الفساد والشفافية والديمقراطية، وعلى الرغم من كثرة المآخذ على هذه المؤشرات، فإنها تبقى تعكس صورة حقيقية عن تدهور أحوال العدالة والحكم في العالم الإسلامي، حيث يعيش العالم الإسلامي في حالة لا عقلانية تتنافى مع كل معايير الحكم الرشيد، وباتت نماذج الحكم القائمة تفتقد لأي مشاريع مجتمعية ووطنية تساهم في خلق ذات وجماعة سياسية حاملة للمعنى وتسعى لهدف ما.
لقد باتت نماذجنا الحاكمة لا تحمل أي مفهوم للمصلحة العامة، تغيب فيها كل وسائل الرقابة والمساءلة والمحاسبة، ومن ثم تختطف كل الحقائق، وعند افتقاد عدالة ورشادة الحكم تدخل المجتمعات في حالة من الظلم والركود، تغيب فيها المجتمعات ويستأثر الحاكم بالحكم، فلا تُساءَل عن أي جرائم، ولا تحاسَب على أي إخفاقات أو خسائر، ويسود الظلم وتستحيل البلاد قرى ظالمة خاوية على عروشها آبارها معطلة وقصورها مشيدة، وعاقبتها الهلاك لا محالة.