لم يَعُدْ لنا ما نتّقي به سهام المصائب، ولم تَعُدْ المصائب تجد لها موقعًا تنشب فيه خارج مَرْمانا، كأنّنا أَبْرَمْنا معها عقدًا ألا تبرحنا إلى غيرنا، وألا نمتلك ما نصد به سهامها عنّا، فتشبَّثَتْ بالعقد وأسْلَسْنا له القياد طوعًا وكَرْهًا.
الاحتلال الصهيونيّ يصول ويجول فوق أشلاء إخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا، ولا يملك مسلم من المليارين المبثوثين في أقطار الأرض أن يتحرك لدفع العدوان عنهم، دماؤنا مستباحة، أموالُنا وخيرات بلادنا منهوبة، أوطانُنا ومَعاقِدُ أرزاقِنا وأقواتِنا مسلوبة، شبابُنا ضائعٌ بين أملٍ في الحياة الكريمة بعيدِ المنال وواقعٍ يحْيَاهُ أَمْحَلُ من المحال، دينُنا العظيم ينادي: أين النصير؟ ولا مجيب، مساجدُنا محاصرَةٌ مراقبَةٌ مرْصودَة، غاراتُ الغزو الفكريّ والأخلاقي وموجاتُ الإلحاد والشذوذ تتوالى وتتابع في سماواتنا ولا رادّ لها؛ فأين السبيل؟ وكيف العمل إذا كنّا نعرف من استقراء الحال أنّ القادمَ أشدُّ ضراوة وأعنفُ في عصفه وقصفه؟
أين السبيل وكيف المخرج وقد أحاط بنا النظام العالميّ وزبانيتُه إحاطة جدران السجن بالأسير المصفّدِ في أغلاله، وأطبقتْ علينا كإطباق الكابوس المروّع على قلب النائم المسترسل في نومه من ثقل الهموم واستبداد الأحزان؟ هل لدينا ما نتَتَرّسُ به في دفاعنا إن رُمْنا الدفاع؟ أو نتسلح به في هجومنا إن تَطَلّعنا للهجوم؟ هل في خزائننا ما يمكن أن يكون زادًا لنا في طريق الخلاص إنْ نحن نشدناه وتوخينا سبيله؟
منصة الانطلاق
علينا إذن أن ننظر فيما نملكه ولا يملكه غيرنا، ونختص به فلا يجرؤ أحد على ادعائه لنفسه، وأن ننطلق منه انطلاقًا رشيدًا، فما هذا الشيء الذي يُعَدُّ مكمن القوة في هذه الأمة؟ إنّه الإسلام.. الإسلام وحسب، وحسبُك بالإسلام قوةً خارقةً وطاقةً دافعة، الإسلام والقرآن والمنهج الربّاني، هذا هو المنطلق، هذه هي منصة الانطلاق العملاقة.
قد يقول قائل: فها هي الملايين من الناس على الإسلام؛ فما الذي تغيّر؟ والجواب: هناك فرق بين بقاء الشعوب على الإسلام وعيشها بالإسلام، ما نريده هو أن نقوم بتفعيل هذه الطاقة الجبارة، لا مجرد حيازتها وتخزينها، نريد تفعيل طاقة الإيمان وطاقة اليقين، نريد تنزيل القرآن على واقعنا لا مجرد تلاوته ودراسة التفاسير التي تتوسع في تحليل ألفاظه، هذا هو المنطلق الكبير، ومن هذا المنطلق الكبير تنشعب مكامن القوة في الأمة، فما هي؟ وكيف نستفيد منها في الإعداد؟
الإسلام حلم الإنسانية
ثمّ حقيقة واقعة طاقة دافعة، وهي أنّ الإسلام العظيم هو الوحيد الذي يحقق أحلام الإنسان وتطلعاته لحياة كريمة لها معنى، وهذا بذاته يعطي الإسلام قوة ذاتية جبارة، تمثل للدعاة إلى الله والعاملين لدين الله رافعة قوية، فالإسلام من جهة دين الفطرة؛ أيّ أنّه الدين الوحيد المنسجم مع فطرة الإنسان، والمتسق مع تكوينه وتركيبه، ومن جهة أخرى فإنّ شريعته هي الشريعة التي اختارها الله للإنسان في كل زمان ومكان، بما يترتب عليه أنّ البشرية بدونه تبقى قلقة حائرة غير آمنة ولا مستقرة، فما تبحث عنه البشرية في عمقها الإنسانيّ معنا نحن، وهذا مصدر قوة لا يمكن تجاهله؛ ومن ثمّ، وجب تعظيم هذا المكتسب، ووجب تفعيله، بأنّ نعتدّ ونعتزّ بهذا الكنز العظيم؛ ليلهب مشاعرنا، ويفجر مكامن القوة فينا.
إنّ الثقة واليقين والاعتداد والاعتزاز والشعور بالنعمة واستشعارها مصادر للطاقة النفسية، ترفع الهمّة وتورث الطمأنينة، وتسهم في خلق جيل توّاقٍ للمعالي، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم قلة يتعبدون خفية في دار الأرقم بن أبي الأرقم ينظرون إلى الأفق البعيد الذي لم ينصرم القرن الأول حتى بلغوه.
التطلع للدار الآخرة
إنّها أعظم طاقة دافعة على الإطلاق؛ لذلك صرّف الله تعالى في القرآن من الوعد والوعيد، وإذا كان سبب الوهن هو كما جاء في الحديث: «حبّ الدنيا وكراهية الموت»؛ فإنّ سبب القوة هو هوان الدنيا علينا وتطلعنا إلى الدار الآخرة، فإذا كانت الآخرة هي الحياة الحقيقية الكاملة كما أخبر القرآن؛ (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (العنكبوت: 64)؛ فإنّه من كمال العقل أن نجعلها غايتنا.
إنّ المسلمين الأوائل طوَوا الأرض طيًّا وانطلقوا في فجاجها شرقًا وغربًا وشمالا وجنوب؛ بقوة التطلع للآخرة وطلب الجنة واستشراف الأجر الأخرويّ والطمع في الشهادة في سبيل الله تعالى، وإنّ النماذج المعاصرة التي تقوم اليوم بواجبات الطائفة المنصورة لأقرب مثال توضيحيّ للحال التي يمكن أن تبلغها الأمة من القوة والنصر والتمكين إذا انتهجت النهج ذاته، فلتكن الآخرة نصب أعيننا، ولتكن الجنة حلمنا الكبير وأملنا العريض، ولتسرح عقولنا وأخيلتنا من الآن هناك عند باب الجنة، حيث تتلقانا الملائكة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر: 73).
موائدُ القرآن ودورُها في الإعداد
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنّ القوم الذين يجتمعون على تلاوة القرآن ومدارسته تنزل عليهم الرحمة وتغشاهم السكينة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيما عنده؛ فإنّ النتيجة التي سيخرج به هذا المجتمع تأتي على مستوى من الإعجاز في بناء الشخصيات كبير، ولقد ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين قلبوا الدنيا رأسًا على عقب، رباهم على مائدة القرآن، استجابة لأمر الله تعالى له: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) (الإسراء: 106)، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً {32} وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان).
إنّ القرآن باعثٌ ومحرك، وإنّه مصدر قوة وطاقة لا نظير له، وإنّ واجبنا أن ندرك ذلك ونتفاعل معه، وذلك بأن نتخذ القرآن دستورًا، وأن نقومَ لله به في الليل، ونقيمَهُ في حياتنا، ونلقِّنَهُ لأبنائنا، ونجتمعَ على تلاوته وتَدَبّره، وإلى جانب ذلك أن ننطلق منه ونجاهد تحت رايته ونطبق في حياتنا الخاصة والعامة أحكامه وشرائعه.
مقومات إدارة الصراع
إدراكُ الذات وما يتْبَعُهُ من وضوح الرؤية ووجود المشروع الجامع.. معرفةُ العدو وما يلزم له من توافر المعلومات وصحتها وسلامة التوجيه والتحليل.. فهم واقع الصراح وما يَتْبَعُهُ من فهم الواقع القريب والبعيد.. انضباطُ المواقف تجاه العدو وما يلزم لذلك من المفاصلة وفقه الولاء والبراء.. التخطيطُ الإستراتيجيّ والإعداد المنهجيّ.. الإعدادُ المتدرّج في غير تسويف ولا إهمال.
تلك هي مقوماتُ إدارة الصراع، من تأمّل كتاب الله تعالى وجدها مستوفاة، وعَلِمَ أنّها واجباتٌ لا يصح إهمالها ولا إهدارها، فيجب علينا أفرادًا وجماعات وأحزابًا وكيانات أنّ نُعْنَى بها عناية فائقة، وهذا من الإعداد الذي أُمِرْنا به في قول الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)؛ فليحدّد كل منَّا واجبه وليتعرف عليه وليلتزم به حسبة لله تعالى.
الوحدة واجب الوقت
لعل الواجب الذي يسلم به الكافّة ومع ذلك لا يعملون به هو هذا الواجب الكبير: الوحدة الإسلامية، والسبب في ذلك هو غياب فقه الوحدة في الزمان والمكان والحال، فلا يلزم لتحقق الوحدة في زماننا هذا ووضعنا هذا أن تنصهر جميع المكونات الدعوية والسياسية في بوتقة واحدة، وإنّما يكفي فقط أن نضع ميثاقًا عامًّا يتضمن الثوابت الكبرى التي يلتزم الجميع بها، والخطوط الحمراء التي لا يصح لأحد تجاوزها، مع وجود دائرة ضيقة يتحاكم إليها الجميع عند النزاع، ثم تترك الساحة يتنوع فيها العمل الإسلاميّ ويتعدد، فإن نجحنا في احترام الميثاق المشترك، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء؛ فسوف نكون مؤهلين غدًا للوحدة الكاملة الشاملة، وإلّا فنحن بحاجة إلى تربية جديدة جدة كاملة، فاللهم اجمع أمة الإسلام على الحقّ.