يقدم كتاب «دلائل إعجاز التشريع الإسلامي في الميراث» قراءة وافية وعميقة لأحكام المواريث في الإسلام، والغاية منها، وأوجه التفرد والإعجاز التي تضمنتها مقارنة بالقوانين والتشريعات القديمة والحديثة.
ويعد الكتاب الذي ألفه الأكاديمي والباحث د. خالد محمد راتب، أحد أهم الإصدارات في المكتبة العربية والإسلامية، التي تقدم إطلالة على علم المواريث في التشريع الإسلامي، من خلال بيان أوجه الإعجاز في تلك الأحكام، عبر تحقيق غايات منها حفظ العقل، والمال، والعرض، والنفس، وتحقيق العدالة، فضلاً عن الإعجاز التشريعي في إقرار ميراث المرأة.
ويحظى المال بحب كبير لدى البشر عامة، وهو عصب الحياة، وقضية العصر، وسبب الخصومات والنزاعات والخلافات، وقد وصف الله ذلك بقوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 20)؛ لذا تزداد أهمية قراءة الكتاب في ضوء غلبة الدنيا، وسيطرة المال والمادية على مجرياتها في عصرنا الحالي.
يتناول الفصل الأول نظام الإرث في التشريعات والنظم القديمة والحديثة، كذلك يسلط الضوء على أحكام الميراث في الإسلام، وكيفية تقسيم التركة، إضافة إلى مقارنة مستنيرة بين التشريعات الوضعية التي وضعها البشر، والتشريعات الربانية التي فرضها الله على عباده، قبل بزوغ كتب القانون وظهور محاكم المال والأسرة.
ويتضمن الفصل الثاني أوجه الإعجاز في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة التي تتعلق بالمواريث، وآيات وأحاديث الميراث، كما يتناول في طياته مقاصد الميراث في الإسلام، وكيف حقق الإسلام العدالة الاجتماعية، وهو إعجاز في حد ذاته، عجزت عنه دول وأمم وشعوب إلى الآن.
وتتبين صور تحقيق تلك العدالة، في ضمان حق الضعيف، والصغير، واليتيم، وكذلك حق المرأة، فلكل شخص نصيبه المفروض، وشروط استحقاقه للميراث، وحالته التي تفرض له هذا النصيب قلّ أو كثر، إذا كان أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً أو عماً أو خالاً أو غير ذلك من الحالات التي فندها الذكر الحكيم في آياته، واضعاً منظومة مالية وتشريعية متكاملة وعادلة يعجز عن وضعها البشر.
ويفند راتب، في مؤلفه الصادر حديثاً، الحكمة من ترتيب آيات المواريث في القرآن الكريم، والتمهيد لها، وكيف ربط الإسلام بينها وبين الجانب الأخلاقي، مع الجمع بين الشمول والدقة والإيجاز في سورة «النساء» التي تعرف بسورة «المواريث»، وتضمنت جملة من الأحكام والتفصيلات في كيفية توزيع الإرث.
يقول المؤلف، وهو أستاذ مساعد بالجامعة الإسلامية بمِنيسوتا: إن آيات المواريث جاءت بشكل متدرج؛ راعى ظروف البيئة التي جاء إليها الإسلام ليخرج أهلها من الظلمات إلى النور، حيث كان العرب قبل الرسالة المحمدية يعيشون في بيئة تهضم حقوق المرأة والضعيف والفقير، لذلك عُني الإسلام بإقرار توريث الفئات المستضعفة، وفرض حرمان توريث القاتل الذي يقتل النفس البشرية من أجل اغتصاب إرث المقتول.
وهذا التدرج كان سمة في أحكام الشريعة الإسلامية، التي اهتمت أولاً العقيدة ثم العبادات ومقاصدها السلوكية، ثم الأخلاق، والمعاملات، وأخيراً العقوبات، وهو تدرج يكشف عن عظمة كتاب الله الذي يهدي للتي هي أقوم، وهو هدى للناس أجمعين.
يستعرض الكتاب الأوامر والنواهي الخاصة بأحكام الميراث، والمعايير المنصوص عليها في توزيع التركة، واعتبار ذلك حدوداً يحرم تجاوزها، فقال الله عز وجل بعد ذكر أصحاب الفروض ونصيب كل واحد منهم: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) (النساء: 13).
ومن صور الإبهار والإعجاز القرآني ما قرره الله من أحكام تحفظ ميراث اليتيم القاصر، مع منعه من التصرف في ميراثه، قبل أن يبلغ الرشد العقلي، فقال سبحانه: (وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6).
وفند راتب أوجه الإعجاز في تحديد أنصبة المرأة في الميراث، زوجة أو ابنة أو أختاً أو غير ذلك، وكيف أنصف الإسلام المرأة، وجعل لها ذمة مالية مستقلة، ووضع لها نصاباً محدداً، فقال الله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: 11)، لكن ها النصاب يزيد ويقل في حالات أخرى أوردتها أحكام الكتاب والسُّنة، فقال: (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) (النساء: 7).
ويؤكد المؤلف عظمة الإسلام وحكمته في تداول المال بين الورثة، وتوسيع دائرة الانتفاع منه، والحفاظ عليه، وانتقاله من هذا إلى ذاك، وفق قواعد رسخت قبل قوانين البشر، مبدأ احترام الملكية الخاصة، كما أرصت مبادئ الوصية، وشروط الموصي له، والموصي به.
ويلفت راتب إلى أن علم المواريث في الإسلام قدم للبشرية نظاماً محاسبياً يفوق غيره من النظم والتشريعات قديماً وحديثاً، ما دفع بلداناً غير إسلامية إلى الاستعانة به في محاكمها وقضائها، بل إن أصحاب ديانات أخرى يحتكمون إلى أحكام الميراث في الإسلام لما فيها من عدالة وضوابط مثلت إعجازاً قانونياً وتشريعياً في إدارة المال والحفاظ عليه.
جدير بالذكر أن المؤلف حصل على الجائزة التقديرية في المسابقة العالمية للإعجاز العلمي عام 2021م، عن هذا البحث الذي حوته صفحات الكتاب القيم والثري، الذي يعد إضافة للمهتمين بدراسة علم المواريث.