عندما قيل: «لا مشاحة في الاصطلاح»، فقطعاً قصد قائلوها أنه لا يضر اختلاف المصطلح طالما كان يعبر عن مضمون واحد، ولكن إذا كان المضمون مختلفاً فحتماً سوف تنتفي صحة هذه المقولة ولن تكون موضوعية في دلالتها.
مشكلة الأفكار غربية المنشأ الوافدة إلينا، أنها غالباً ما تكون موهِمة مُضلِّلة، ولذا سيكون من السفه أن نمرر هذه المصطلحات وننجر وراء زخرف معناها الظاهر، دون أن نسبر أغوارها ونقف على حقيقتها ومضمونها.
من هذه المصطلحات الوافدة الموهمة التي تحتاج إلى تحرير معناها ومضمونها، مصطلح «العولمة»، الذي هو في ظاهره منحى جيد للإنسانية صوب التوافق والتجانس والانفتاح في ظل قيم العدل والمساواة.
فإذا كانت العولمة مرادفاً للعالمية في حس كثير من المتوهمّين، فيجدر بنا أن نقدم نموذجاً للعالمية التي اصطبغت بها رسالة الإسلام، مقابل العالمية المتوهمّة لدى كثير من الواقعين في فخ العولمة.
عالمية الإسلام
كانت الرسالات السابقة للإسلام محلية، ترتبط بأقوام معينين أو نطاق قومي وجغرافي معين، ولم تكن ذات صبغة عالمية، خلافاً للإسلام الذي حمل هذه الصبغة باعتباره خاتم الرسالات، والممثل الخالد للدين الذي ارتضاه الله للبشر إلى قيام الساعة.
ظهرت عالمية الإسلام منذ نزول القرآن في مكة على الرغم من كونها مرحلة استضعاف، كقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
عالمية الإسلام صبغة منهج رباني مُنزَّه عن النقص يضمن تطبيقه العملي كرامة وحرية الإنسان
هذه العالمية تنطلق مما أكده القرآن من بيان الحكمة من خلق الناس شعوباً وقبائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
فالغاية من ذلك أن يتم التعارف والتعامل القائم على احترام الخلقة الإنسانية التي كرمها الله، وما ينتج عن هذه التصورات من الاحترام المتبادل وقبول حق الآخر في الوجود وإثبات ذاته وإفادته والاستفادة منه.
وهذه الآية قد لخصت عالمية الإسلام، من خلال تحديد دائرتين، دائرة الاجتماع الإنساني الذي يستوي فيه الناس جميعاً وهي الطينة البشرية، ودائرة التفاضل التي يمتاز فيها بشري عن آخر بالتقوى، يقول ابن كثير: «فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم»(1).
ومن هذا المنطلق، حافظ الإسلام على خصوصيته من خلال أصوله، وحافظ على عالميته مستوعباً الإنسانية من خلال فروعه وأحكامه التي يجتمع في ظلالها البشر جميعاً طواعية لا كرهاً، فالأحكام والفروع تتضمن التعامل مع غير المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وقومياتهم على أساس من العدل والرحمة، وإرساء مبادئ راقية في التعامل معهم مع احتفاظهم بهوياتهم الثقافية أو القومية.
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً فحضارته كذلك بالتبعية حضارة عالمية، قائمة على التوافق بين الأمم، فكما أن الإسلام لا يُكره أحداً على الدخول فيه، فكذلك الحضارة الإسلامية التي تأسست على منهاجه لم تقم على الإكراه وإنما على الاستيعاب والاختيار والتفاهم والتلاقي، ولذلك عاش أصحاب الملل والنِّحَل الأخرى في ظل عدل ورحمة الإسلام، منخرطين ومساهمين في تأسيس تلك الحضارة، فأصبح هناك إسلام العقيدة، وأيضاً ما يمكن بتسميته إسلام الحضارة، وهو تفاعل غير المسلمين وانسجامهم وتجانسهم مع المجتمع الإسلامي مع الاحتفاظ بخصوصيتهم الهوياتية، وذلك بالطبع يتعلق بالذين عاشوا في الدول والبقاع التي تقع تحت إدارة المسلمين، أما الذين عاشوا في الدول التي لا تقع تحت إدارة المسلمين فقد شملتهم عالمية الإسلام بمبادئ عادلة منظمة لأطر التعامل معهم وفق منظومة القيم الإسلامية فيما يطلق عليه الآن النظام العالمي أو المجتمع الدولي أو الشرعية الدولية.
إذن، فالعالمية التي امتاز بها الإسلام، هي كما بين د. محمد عمارة(2)، ثمرة للتفاعل الحر والاختياري بين الحضارات المتعددة والمتمايزة، تمثل القاسم المشترك والجامع لهذه الأمم والحضارات؛ أي المشترك الإنساني العام بينها، الذي لا ينفي تمايزها في الخصوصيات والمحليات.
عولمة الغرب
فإذا كانت عالمية الإسلام كسفينة نوح، تجمع مختلف الأجناس طواعية رغبة في النجاة في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما، فإن عولمة الغرب أيضاً تشبه سفينة تجمع العالم بمختلف شعوبه، بيْد أنه تخلّف عنها أمران، أولهما: أنه لا بد للسفينة من رُبّان، وربّان سفينة العولمة ليس نظاماً ربانياً محكماً يضمن فيه البشر الحرية والعدالة، وإنما رأسمالية ليبرالية غربية مهيمنة، تسوق الناس على نظرية نهاية التاريخ، التي ترى في هذا النموذج أرقى تطور وصلت إليه البشرية، على الرغم من أنه قائم على الإمبريالية العسكرية والثقافية ونهب خيرات الشعوب وصناعة الأزمات العالمية.
العولمة ما هي إلا نتاج فكر غربي إمبريالي أحادي القطب قائم على الأطماع الاستعمارية
وهذا يقود إلى الأمر الثاني: وهو أن العولمة تفرض النموذج الغربي قسراً، وتحشر الدول والشعوب في سفينتها بلا اختيار، وتجتاح الخصوصيات الثقافية والقيمية والحضارية لهذه الشعوب.
يطرح الغرب مفهوم العولمة على أنه نظام رشيد يضم العالم، بما يضمن تدفق رؤوس الأموال والسلع والمعلومات متخطية الحدود والجغرافيا، ومن خلال الشركات عابرة القارات يتحقق قدر كبير من الانفتاح في العالم ومساحة كبيرة من الديمقراطية بما يضمن الاستقرار والعدل للجميع، وتفادي الصراعات الثقافية والهوياتية، هكذا يزعم الغرب.
لكن الحقيقة أن العولمة هي عملية قولبة للشعوب والمجتمعات فرضتها الرأسمالية الليبرالية التي تتزعمها أمريكا، عن طريق مؤسسات دولية تكرس بقوانينها لتجريف الإطار القيمي والثقافي لمجتمعات الجنوب، وشركات عابرة للقارات تمثل أبرز آليات العولمة.
تلك القولبة تتمثل في جعل الشعوب والمجتمعات تعيش في واقع مادي بعيداً عن المرجعيات النهائية المتمثلة في الدين، بزعم إزالة الحواجز أمام تدفق رأس المال الحر، وتحويل المجتمعات إلى مجتمعات استهلاكية وسُوق للمنتجات الغربية.
ويكفي في كشف زيف التعريفات الغربية للعولمة، أن الشركات عابرة القارات ينتمي 90% منها إلى الغرب وغالبيتها أمريكية، لكنها عالمية من حيث ساحتها فحسب، بمعنى أن لها فروعاً في جميع أنحاء العالم.
ويرى د. عبد الوهاب المسيري، أن العولمة تهدف إلى محو الذاكرة التاريخية حتى تمحو وعي الإنسان بذاته بصفته كياناً مستقلاً عن عالم الطبيعة والمادة، تبناها الغرب حتى يصرف الناس عن الجهاد وحتى لا يتنبه الناس لاستغلاليته وسطوته(3).
لذلك نقول: إن العولمة هي اجتياح أمريكي غربي لدول الجنوب التي تنتمي إليها أمتنا، تستهدف دمج المجتمعات والثقافات في سوق عالمية يهيمن عليها النظام الرأسمالي الليبرالي تحت مظلة الديمقراطيات الغربية، وما يترتب عليه من تأثير جذري في ثقافة وهوية تلك المجتمعات.
نستطيع القول: إن أبرز الفروق الجوهرية بين عالمية الإسلام وعولمة الغرب تتمثل في أن عالمية الإسلام هي صبغةُ منهج رباني مُنزَّه عن النقص يضمن تطبيقه العملي الحق، كرامة وحرية الإنسان، بينما العولمة ما هي إلا نتاج فكر غربي إمبريالي أحادي القطب قائم على الأطماع الاستعمارية.
ومن ناحية أخرى، فإن عالمية الإسلام قرينة الحرية والاختيار، بينما العولمة قرينة الاجتياح والقسر والقهر والإتيان على الخصوصيات الحضارية المميزة للشعوب والمجتمعات.
________________________________________
(1) تفسير ابن كثير (7/ 385).
(2) مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، محمد عمارة، ص13.
(3) العلمانية والحداثة والعولمة، حوار مع د. المسيري أجرته سوزان حرفي، ص296.