منذ سنوات تحدث كايلاش ساتيارثي، الحقوقي الهندي الحائز على جائزة «نوبل»، عما ما أسماه «إرهاق العولمة»، فالعولمة الاقتصادية والثقافية هددت الهويات والمعتقدات وأساليب الحياة التقليدية، وأمدت الكثير من الناس بمشاعر القلق والحيرة وعدم الاطمئنان، في ظل تراجع مشاعر الرحمة والتعاطف لصالح الربحية والاستهلاكية المفرطة.
الإنسان الحقيقي هو من يملك التعاطف والإحسان ويظهرهما، لكن مع العولمة وتغول المادية وتوحشها، أخذت قيم الإنسانية في التراجع، لصالح الفردية والنفعية والاستهلاكية، ففي دراسة أجريت على الطلاب الأمريكيين خلال الفترة من عام 1979 حتى 2009م، كشفت عن تراجع التعاطف بنسبة 48%، وإذا أضفنا العقدين التاليين لنتائج تلك الدراسة، التي استحوذت فيه الرقمية على اهتمام الناس ومشاعرهم وأوقاتهم، سنجد النسبة مخيفة للغاية، وهي غياب مروع لمفهوم التراحم والإنسانية والطمأنينة، وبروز النرجسية والانبهار بالذات بعدما أعادت وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الذات الإنسانية لأغلب البشر، وجعلتهم مهووسين بأنفسهم منكفئين على ذواتهم.
في دراسة نُشرت عام 2021م في جامعة أوهايو الأمريكية، استندت إلى مراجعة 437 دراسة عن النرجسية، خلصت أن البشر الحاليين نرجسيون، ولكن بدرجات مختلفة، ومن هنا تحولت النرجسية لنوع من الاضطراب في الشخصية، لكن أهم ملمح أشارت إليه الدراسة لذوي النرجسيات المتضخمة، هو صفة عدم احترام احتياجات الآخرين، في المقابل أجريت دراسة عام 2022م على 56 دولة؛ خلصت إلى أن العولمة مرتبطة بانخفاض مستويات النرجسية الوطنية؛ أي الاعتزاز الزائد بالوطنية والهوية الجامعة لشعب أو أمة ما.
أدت العولمة إلى اتساع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وزادت من حدة الفقر والاستغلال، بعدما رفعت الكثير من الدول يدها عن دورها الاجتماعي، وسمحت بإطلاق قوى السوق في الأنشطة الاقتصادية، وسمحت بتراكم الثروات في أيدي حفنة قليلة من الأفراد، وتشير تقديرات إلى أن حوالي 385 فرداً يملكون ثروات تعادل ما يملكه 2.5 مليار إنسان! و20% من سكان العالم يمتلكون 80% من الناتج العالمي! ومن ثم توسع الفقر العالمي.
ويشير تقرير للأمم المتحدة أن عدد من يعانون الجوع في العالم يصل إلى 828 مليون شخص، وأن 3.1 مليارات شخص في العالم عاجز عن تحمل كلفة نظام غذائي صحي، وأن 8% من سكان العالم سيظلون يعانون من الجوع في السنوات القادمة حتى ولو حدث انتعاش اقتصادي في العالم.
الشعائر.. الطريق البديل
ورغم وجود فوائد وميزات للعولمة في التقارب والتواصل، فإن تلك الميزات كانت ضرورية لتحقيق التوسع الاقتصادي والاستهلاكية المفرطة، وما يرتبط بهما من استغلال، فالقيم التي تقف وراء توحش العولمة هي القيم المادية، التي لا تمتلك قلباً ولا رحمة، وإذا كان البعض طرح مفهوم عولمة الرحمة لتقييد ذلك الاستغلال والتوحش العولمي، فإن الإسلام يطرح من خلال شعائره وفرائضه طريقاً ثالثاً لتحجيم هذا الاستغلال، ونثر الرحمة والتراحم، ومواجهة الفردانية، ومواجهة شح الأنفس.
وحسب علماء الأنثربولوجي، فالشعائر لها دور مركزي في جميع أنشطة الحياة، فهي تجسيد لعملية الدمج بين المقدس والنظرة للكون ونظام القيم، فالشعيرة تعبير عن المعتقد، وكاشفة عن الإيمان، كما أنها تعطي وجهاً ثقافياً واجتماعياً للدين، ولها وظائف في تحقيق التماسك الاجتماعي وبناء الشعور بالوحدة، وانتشال الفرد من فرديته الضيقة إلى رحابة الجماعة، فتكافح مشاعر الأنانية والفردانية، كما أن للشعائر وجها ًاجتماعياً، وما يزيد من قوتها أنها ذات قدرة على بث المعنى في النفس، فالشعيرة دوماً مشبعة بالمعنى والرمزية، وكما ذكر الفيلسوف تولوستوي، فعندما يبدأ الناس في فقدان معتقداتهم الدينية، فغالبًا ما يكون أول شيء يتوقفون عنه هو الالتزام بالطقوس الدينية؛ لذا فبين العلمنة والشعائر نوع من القطيعة التامة.
شعيرة الصلاة.. والعولمة
تعتبر الصلاة ذات أهمية في مواجهة ضغوط العولمة المتصاعدة، العولمة خلقت أزمة وجودية عميقة في ظل غياب الطمأنينة التي كانت تمنح النفس الإنسانية سكينة وتخفض من قلقها، فالعولمة تنشئ هموماً في النفس وجوعاً لا يشبع أبداً من كثرة الاستهلاك، فالاستهلاك في تلك الحالة ليس استهلاكاً من أجل الحاجة، ولكنه من أجل الاستهلاك فقط، لأن الشخص يظن أن قيمته لا تتحقق إلا بنوعية الاستهلاك وكميته، ولن تستطيع السلع أو الترفيه أن تشبعه ولكنه يحتاج إلى إشباع من نوع مختلف، إشباع يرتبط بالروح والنفس من خلال التواصل مع الخالق سبحانه وتعالى، وتحصيل معنى في الحياة.
لذا، كانت السكينة التي تضفيها المساجد، خاصة في المدن، لها تأثير في خلق السكينة والطمأنينة، وكأن المسجد يتحدى ذلك الطغيان المادي والعولمي.
نضف إلى ذلك أن الصلاة تحطم كثيراً من تلك النرجسية التي أصابت الكثير من البشر، فالسجود، والتراص في صفوف الصلاة بين مختلف الطبقات والأعمار؛ يهذب تلك النرجسية، ويحقق الترابط في المجتمع، كما أن الصلاة تضفي على النفس طمأنينة أمام تقلبات الحياة وشره الاستهلاك والغلاء وضعف الإمكانات، إذ يعتقد الإنسان أنه يستند إلى قوة أكبر وأعظم.
شعيرة الزكاة.. والعولمة
الحكمة تقول: «ما لم تنم شجرة العدالة في تربة الرحمة، فلن تحمل ثمارًا دائمة»، والتربة العولمية هي تربة مادية، لا تصلح لمثل هذه القيم والمفاهيم، ولكن ما ينبت فيها: النفعية والربحية والاستهلاكية المفرطة والاحتكار والاستغلال، والإنسانية مرتبة للاقتراب من الكمال الأخلاقي القائم على الرحمة، وفرضية الزكاة، التي تفرض على الأغنياء حقاً معلوماً في أموالهم لصالح الفقراء، ويُشترط أن تؤدى بطريقة كريمة تحافظ على كرامة الفقير، كل هذا يجعل شعيرة الزكاة في مواجهةٍ مع قيم العولمة النفعية الاستغلالية.
فالزكاة وما يحيط بها من أخلاق وآداب، تساهم في سد حاجات غير القادرين، وتنشئ مناخاً تراحمياً، خاصة أن الإسلام حث القادرين على عدم الاكتفاء بالزكاة، ولكن حثهم على الإكثار من الصدقات وأعمال البر والخير، حتى يعم التراحم، لأن المجتمعات التي تُؤدى فيها الزكاة مجتمعات تراحمية.
والزكاة تساهم في إنشاء مجتمع يعرف نفسه، بمعنى أن الغني يبحث عن الفقير، ويساعده، لا أن يعيش الغني منعزلاً في تجمعات بعيدة عن أحزمة الفقر وأزقة المدن الضيقة، ولكن الزكاة تفرض عليه أن ينظر في حال هؤلاء المساكين، ويساهم في مسح البؤس من أحوالهم، وهذا التفقد والتراحم ينشئ مجتمعاً يعرف نفسه ويتراحم فيما بينه، ويقلل من التوحش العولمي المادي.
فالوجه الآخر للعولمة هو الظلم الاقتصادي، وهذا الظلم ليس محايداً أخلاقياً، ولا يحدث في فراغ اجتماعي، ولكن له تأثيراته الممتدة، وطبقاته المستفيدة، وطبقاته الأخرى المتضررة، والرحمة يجب أن تساندها عدالة اجتماعية، وبدون ذلك تتحول إلى نصائح، والزكاة تجسد تلك الرحمة والعدالة في سلوك وإجراءات وتنظيمات لجمع الزكاة وإنفاقها في أوجهها الشرعية، وهو ما يجسد الرحمة المقترنة بالعدل في الحياة.
السؤال الأخلاقي قد لا يكون مطروحاً في العولمة، لكن نجد أن شعيرة الزكاة تطرح السؤال الأخلاقي وتجسده عملياً في المجتمع وتنشئ قيماً معيارية للعدالة الاجتماعية، فالزكاة لها نصاب، ومواعيد، وآداب، ومستحقون لها، ولم تُترك لمخرجها أن يتصرف فيها كما يريد؛ لأن الإنسان مستخلف في المال، ولعل تلك النقطة تكشف جانباً من مناهضة الإسلام للعولمة، فبعض الدول تتخلص من فائض إنتاجها من القمح بإلقائه في البحر حتى تحافظ على أسعاره، أما الإسلام فيرفض تلك القيم العولمية الهابطة وينظر لها باعتبارها معادية للإنسانية والأخلاق.