يكتب العلماء والكتَّاب والشعراء في ذكرى مولد رسول الله ﷺ من صفات كماله ومكونات شخصيته ما يدلل على الكمال البشري الذي أكمله وأتمه الله تعالى على مراده وعينه، وجعله متفرداً بجميع هذا دون أحد من خلقه، فلا نبي مرسلاً يضاهيه ولا ملك مقرباً يساميه.
وهنا نبرز جانباً من هذا الكمال الذي يحتاجه السواد الأعظم من الخلق وخاصة من أبناء أمته وممن أجاب دعوته، فقد أصبح واقعنا الحياتي مغيباً عن لغة التفاهم البيني والتفهم العقلي، وكثر على إثر ذلك النزاعات وسوء الظنون وتوجيهات الأفعال وتراشق الكلمات.
لماذا تحب أن يتفهمك غيرك وأنت لا تفعل؟ لماذا تحب إمرار أخطائك وعدم الوقوف معها طويلاً، وفي المقابل تقف بالحديد والنار لكل من أخطأ بين يديك، وتسافر بالعتاب الطويل المقرع على سامعيه؟ لماذا لا نعترف بطبيعتنا البشرية التي تحمل نقصاً لا كمالاً، ونتعامل على أننا ملائكة منزهون؟ لماذا نحكم على الأشخاص بالموقف العابر وننسى أصل المعدن ومراحل التربية الطويلة من أبويين كريمين؟ لماذا تجعل نفسك مرجعية في الحكم على الآخرين، فتحكم بجور وتهدم بباطل، وفي المقابل لا ترضى بنفس الآلية حكم الآخرين وتتهمهم بالنقص وقلة الفهم وغياب المعلومة والدخول في نوايا القلب؟
والجواب عن كل تلك الأمثلة هي ببساطة لقد غابت عنا لغة التفاهم التي تمثلت في أعلى كمالها البشري في شخصية النبي ﷺ، لقد كانت تربيته الإلهية ولقاءته المجتمعية وخبرته الطويلة النابعة من بصيرته النبوية وتشكلت في لقاءته الميدانية بالناس؛ ما جعلته يتفهمهم ويعرف مداخلهم وكيفية التعامل معهم، ويفوز بنهاية الأمر بتقدير الجميع من رآه ومن لم يره ممن سمع به إلى يوم القيامة.
وهذه بعض من هذه الجوانب لهذا الخلق النبوي الفريد التي نحتاجه جميعاً في واقعنا المعاصر ومشاهد حياتنا اليومية تفاعلاً وفي غرسنا الشخصي تكوناً:
أولاً: يتفهم الطبائع الجبلية التي يكون عليها الناس فيمررها:
يعلم أن الناس متفاوتة الطباع متأثرة بعوامل بيئية وخلقية وتربوية متنوعة بين شدة ولين وحدة وتمرير، فيتفهم ﷺ هذا التفاوت ويمرره ولا يقف عنده طويلاً، ويغتنم الفرصة في تغييره بهديه وتوجيهه، أو على الأقل تخفيف حدته وشدته.
فعند البخاري عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ»، ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ.
ثانياً: يتفهم حديث العهد بإسلامه والعالق به بعض جاهليته:
معلوم أنه فاقد لكثير من العلم والمفاهيم الشرعية وما زالت له بعض الجواذب من حياتية الجاهلية، لم تنم بعد مشاعر الإسلام في قلبه، ولم يحط بمقاصده وتعاليمه وشرائعه وعيه وعقله، ولم تتعود جوارحه شعائره وتطبيقاته العملية، فهو ما زال في بدايته، ولولا التفهم المحمدي لكانت جاذبية الجاهلية أقرب إليه.
ومثال ذلك الفتى الذي طلب إلى النبي ﷺ أن يرخص له الزنى، وكيف رد عليه النبي ﷺ وتفهم حاله وأقنعه بالعدول عن هذا الذنب.
ثالثاً: يتفهم الجاهل بالحكم الشرعي ويعلمه:
فلا تراه يعنفه لجهله بقضايا دينه وإسلامه ولا لمخالفته العملية لتطبيقاته القرآنية والنبوية، فهو يتفهم بُعد تعلمه، ونأيه ببيئته، وانشغاله بكسبه ورزقه، وأمية تكوينه فيوجه دون تجريح، ويصوب دون توبيخ، ويقيم الشرع بمقياس الذرة في أوعية العامة، من ذلك ما أخرجه مسلم عن ابْنُ عَبَّاسٍ، أنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟» قَالَ: لَا، فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَ سَارَرْتَهُ؟»، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا»، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا.
رابعاً: يتفهم المخطئ إذا غلبته نفسه وضعفت:
فهو مدرك لطبيعة البشر وخصائص النفس ومحاربة الشياطين من الجن والإنس له في طريق هدايته وتخريب سيرته، وإن المتفهم السائر على الخلق النبوي والكمال المحمدي عندما يقيمه هذا فهو يساعد أخاه على الاستكمال والاستدراك استكمال بما بدأ إذا غلبته نفسه على الفتور والقعود لما يعتري الطريق من عقبات ومملات، واستدراك لما تساقط منه من أخطاء وهفوات، فيحمل مشعل الشد على العضد بلغة التفهم لطبيعة النفس وما يعتريها من ضعف ونقص.
وفي مثال حاطب بن أبي بلتعة وما فعله من محاولة إفشاء الأسرار العسكرية للعدو القرشي دليل لبيان كيفية التعامل لهذا في المنهج النبوي.
خامساً: يتفهم مشاعر الناس وقلوبهم فيقف بجوارهم:
لا يرمي أحد بخوار ولا ينعته بجبن يدرك رقة القلوب ولو حملها الرجال ويتفهم طبيعة المحب وإن أعلنه للعيان فتراه بالكلام واللحظ يداريه، وبالشافعة يؤازره ويواسيه، فعند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبَّاسٍ: «يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا»، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَاجَعْتِهِ»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ» قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ.
إن التفهم خلق وصنعة نبوية عالية الإتقان نفيسة المعدن لا يحملها إلا من عاش بلقبه وجسده وروحه فحلق بها ناحية المقام النبوي، ودنا بنفسه لبابه العملي، فرزق نسائمه وحصله فوائده.