يشهد الواقع المعاصر تبدلاً هائلاً في الأفكار والنظريات، كما يشهد حالة متنامية من خلع رداء القيم والأخلاق التي استقرت عليها الأمم بفعل الفطر السليمة، والاتزار عوضاً عنها بالشعارات التي أصبحت تسهم في تحول الثوابت الأخلاقية والقيمية عن مجرياتها، وغدت تيارات الإلحاد تطل برأسها في كل مجتمع.
إن التغيرات المعاصرة صارت واقعاً يفرض نفسه، وصارت كالهواء الذي لا يمكن لأحد أن يتحاشاه، فقد أصبحت إما واقعاً مفروضاً في المؤسسات، أو واقعاً للتعايش يختاره الناس بأنفسهم.
تقول زهرة الخروصية: إن موجة الإلحاد في ازدياد كبير، ولئن كانت فيما مضى تطل برأسها بين الفينة والأخرى على استحياء، نراها اليوم جندت كل وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق مآربها، لسهولة وصولها للناس وسرعة انتشارها لتبث من خلالها أفكارها الهدامة، وتزلزل الشباب وتهزه في عقيدته، ليحيا حياة التيه والعذاب والصراع، وتطمس هوية الدين والعروبة، تحت مسميات براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب(1).
وفي ظل المفروض من تغيرات العصر، والمختار منها، حدثت حالة تحول كبير في سلوك المجتمع، بدأ من الأسرة، ثم تطاير شرره إلى مكوناتها، خاصة الشباب.
الشباب في مهب تيارات القصف الفكري
تعمد كل المؤسسات الدولية، والمؤسسات التي ترفع شعارات التنمية إلى استهداف الشباب، ووضع الخطط لانخراطه ضمن برامجها، ذاك أنه هو قوة التغيير، وعنصر التحول، والطاقة الخلاقة المنتظرة، وحين ننظر لقيمة التحول الذي يقوده الشباب وقوته وتأثيره نجده بالغاً.
وفي هذا العصر كثرت تيارات الإلحاد الداعية إلى إخراج الناس من الأديان، وعدِّ الدين فترة كانت عند الإنسان البدائي الأول، حيث أشار لذلك الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1857م)، وبما أن بعضهم رسخت عنده هذه النظرية، فالدين من هنا يمثل طوراً من أطوار البدائية، ومرحلة من مراحل التخلف! وشكلاً من أشكال القصور.
وهكذا صُور الدين، باتهامه بالبدائية، واتباعه صار كذلك بدائية وتخلفاً، عزز ذلك ما وجده الشباب من حالة الانفصام بين حملة الدين على مستوى النظرية، ومستوى التطبيق، فبينما رغبوا الناس في الزهد والتعفف، انخرطوا هم في الترف والرذيلة، وبينما أمروا الناس بالاستقامة، وقعوا هم في الانحراف.
وهنا نرصد الخيط الأول للتحول للإلحاد لدى الشباب، ويمكن التعبير عنه بأنه: حالة الفصل بين النظرية والتطبيق عند حملة الأديان ودعاتها.
كذلك ساعد على اتساع رقعة الإلحاد حالة المثالية الملزمة التي يصدرها حملة الأديان للناس؛ مما يجعل الدين صعباً غير مستطاع، ويجعل سلوك المتدين في حالة انطواء وانعزال عن الفطرة تارة، وتارة أخرى انعزالًا عن متطلبات الجسد والنفس.
وفي السياق ذاته، كان لموجات الانحلال الأخلاقي المجانية في بعض المجتمعات أثر بارز في انتشار الإلحاد، فالنفس لا تعرف الجمع بين التدين والرذيلة، ولا الجمع بين الهوى والاستقامة، فإما استقامت، وإما زاغت، والنفس غلّابة لصاحبها، والشهوات المجانية لها إغراء لا يقاومه الضعاف.
وعلى جانب آخر، نجد أن الإلحاد انتشر بسبب ما ملأ الطباق من الظلم الذي يسري في العالم، وكأن عقل الشباب الباطن قادهم إلى أنه عالم بلا رقيب.
كذلك عزز انتشار الإلحاد أيضاً التدين المغلوط الذي يتصور إلزام القدرة الإلهية بتنفيذ أهوائنا وأمانينا وقتما نريد، فإن تخلفت الأماني زاغت النفس، ومالت إلى المروق.
ومما زاد من اتساع موجة الإلحاد، تصور الوعود الإلهية كالنتيجة الفورية، وهذا خلل خطير في العبادة، فإن مقتضى العبادة هو التسليم، مع المغالبة في العمل للاستخلاف، ثم مواعيد الله لها آجال، تأتي منه وفق ما أراد، لا وفق ما نقرر.
وهكذا ينظر الشباب لما يظنونه تخلفاً للوعود على أن الدنيا بلا رقيب حكيم يدبر شأنها؛ فتميل النفس للهوي والزيغ.
الشباب في مجتمعاتنا
في مجتمعنا العربي والإسلامي لا يختلف الوضع، فحالة الانهزام الحضاري التي تعيشها الأمة جعلت الشباب يركب مراكب التيه، وعززت حالة الهزيمة الدائمة والاستضعاف صور التململ عند الشباب، فضلاً عن موجات القصف الفكري، وتيارات التغريب التي توجه سهامها إليه خاصة، وتستهدفه من دون المكونات الأخرى، من خلال الإرساليات والبعثات التعليمية.
وهكذا أصبح الشباب فريسة سهلة الاصطياد من خلال مؤسسات تبدو رسمية في ظاهرها، خبيثة في أغراضها.
يعزز هذا مناهج تعليمية تقطع صلته تماماً بالدين، وتربطه فقط بالمحسوس، وما تنتجه المعامل والمختبرات.
حصون وأسوار
إن ظاهرة الإلحاد تنال من استقرار المجتمع، وتقضي على حضارته، وتعزز تصدع الأسرة، وتآكل القيم، ولا بد من محصنات لتفادي تنامي هذه الظاهرة، ومن حسن الطالع أن مجتمعاتنا العربية والمسلمة تأتي في مؤخرة الدول التي ينتشر فيها الإلحاد، ولكن في الوقت ذاته لا بد أن يؤخذ في الاعتبار أن الظاهرة تتنامى كل حين، والأسباب التي أبرزتها ما تزال قائمة، ومعززات انتشارها حاضرة، والإطار العام للثقافة والتعليم والفن والصحافة؛ بل والخطاب الديني لا يشجع على انحسار الإلحاد، بل بعض ذلك يدفع إليه دفعا، ويحض عليه حضًا.
ولا بد عند النظر للتصدي للإلحاد من وضع حلول قابلة للتطبيق، ممكنة، سهلة، فيؤخذ في الاعتبار أن الحلول المطلوبة موجهة للجهود الفردية والمبادرات الصادقة من المهتمين بالتصدي للظاهرة، حيث المؤسسات الرسمية لا تعني بذلك غالباً.
فلا يمكن أن تكمن الحلول فقط في التنادي بإصلاح التعليم، لأننا بذلك نعلق الأمر على إصلاحه.
ولا يجوز ربط الظاهرة بتجديد الخطاب الديني، لأننا نعلقه على شيء تتجاذبه الأنظار وتختلف فيه اختلافا كثيرًا.
مسارات مقترحة
يمكن في تحييد ظاهرة الإلحاد والحد منها أن نسير وفق ما يلي:
أولاً: الاعتناء بالأسرة؛ فالأسرة في المجتمع العربي خاصة هي الملقن الأول للناشئة، والأصل أن يتأهل الزوجان قبل الزواج لإدارة شؤون الزوجية، وبعده على تربية الأبناء تربية تعتمد على الحوار والإقناع، وقبل أن تدفع من راحتها ورصيدها في علاج الأولاد تبدأ التحصين من بدايته وقبل ظهور المرض.
ثانياً: تكميل العملية التعليمية لدى الناشئة بكل طريقة ممكنة، فالتعليم لا يُعنى بتعليم كتاب الله حفظاً وتدبراً، فلا بد أن تكون هناك مؤسسات خيرية وقفية أو مانحة، أو أفراد يقومون على عملية التحصين من خلال ربط الناشئة بالكتاب والسُّنة.
ثالثاً: تحصين الأبناء من الانجرار خلف مواقع التواصل، وعدم ممارسة المنع الجبري لتتبعها، بل الحوار ثم الحوار في إدارة النقاش مع الشباب.
رابعًا: محاولة إصلاح الخلل الديني في تناول السيرة والسُّنة والتشريعات، وتمكين الشريعة في نفوس الشباب كممارسة وحركة دائمة دائبة.
خامساً: على كل مسلم دور في العمل في هذا الاتجاه ما أمكنه، فإن سلامة المجتمع منوطة باستقامة أفراده، وإذا حدث الهلاك حدث للصالح والطالح على السواء.
سادساً: سرعة استعمال الوسائل الحديثة للتصدي لظاهرة الإلحاد، لأن التغاضي عن ذلك سيمكن لها بين الشباب، وسيجعل الشباب أسرى لتلك التقنيات.
سابعاً: تعزيز فكرة اتساع المعارف، واتساع مداراتها، وأن منها العلمي والعقلي، فلا تقف المعارف عند حدود الحواس، ولا ينبغي أن نجعل تصديقنا لها وفق نتائج المختبرات، وأن الاستدلال بعالم الشهادة على عالم الغيب، من أكبر ما يعين على فهم ما يظنه المرء محالاً، وفي جميل الاستدلال: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون(2)، وفي التنزيل الحكيم: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (يس).
وهكذا تمضي دلالات الشريعة تقيس الغائب على الشاهد، وتجعل مما يظنه العقل محالاً ممكناً، والسعيد من كان حواره وتعليمه للشباب يجتر هذا المنحى.
_______________________
(1) الإلحاد لدى المرأة الخليجية أسبابه وآثاره، ص73.
(2) سبل الهدى والرشاد (2/ 323).