التوحيد والوحدة مرتكزان أساسيان في ديننا الحنيف، فهذه الأمة تجتمع على دين واحد يدعو أتباعه إلى توحيد الله وإفراده في العبادة، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
ولترسيخ هذا المفهوم؛ مفهوم الأمة الواحدة، لا بد من أن تكون هناك علاقة مميزة تحفظ كيان هذه الأمة وتساهم في وحدة صفها وتدعم الروابط بينها؛ لتكون النتيجة مجتمعاً إسلامياً متراحماً متماسكاً يتعاون أفراده على البر والتقوى.
هذه العلاقة تكون أكبر من المصالح وأعلى من العرق وأوسع من الجغرافيا.
إنها الأخوة الإيمانية التي تجمع الأمة على اختلاف أعراقها ومناطقها لتكون كما أرادها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110).
ولكي نفحص أسس هذه العلاقة ونفهم تجلياتها نقف وقفات عميقة من خلال التأمل في هذه الآية الكريمة، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10).
لقد أبدع الإسلام مفهوماً جديداً ومصطلحاً غاية في البهاء والجمال ليعبر عن نوع الرابطة الجليلة والعميقة بين أفراد هذه الأمة، ذلكم هو مصطلح «الأخوة الإيمانية»، فاختار لفظ الأخوة وما فيه من دلائل القرب والتوافق والسند، وربط هذه الأخوة بالإيمان الذي هو لب الانتماء الجامع لهذا المجتمع المؤمن.
في هذه الآية استخدم القرآن أسلوب القصر ليؤكد عمق وامتداد واتساع هذه الأخوة، وفي هذا التعبير دلالات من معانٍ بديعة ومتجددة، تؤكد قدسية هذه العلاقة لارتباطها بالإيمان وامتداد اتصالها برسالات السماء، فهي علاقة في الله وبالله ولله، كالنخلة الباسقة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فنرى ثمارها مودة وألفة، براً وتعاوناً، نصرة ومؤازرة، دعماً ومساندة.
لهذه الأخوة تجليات لعل من أبرزها ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، ولا شك أن هناك سبباً لنزول الآية يجده كل من اطلع على كتب تفسير القرآن الكريم، لكن الظلال الوارفة لها تعبر الزمان والمكان فتتسع فضاءاتها من التنظير إلى التطبيق، ومن الوعي إلى السعي، ومن القول إلى الفعل، لتؤكد أن واجب المسلم نحو إخوانه المسلمين يحتم عليه أن يكون ساعياً لمد الجسور بين المؤمنين، فيسعى للصلاح والإصلاح، يسد الثغرات ويقيل العثرات، يرمم العلاقات ولا يسمح بالفتن والمؤامرات، يصد موجات العصبية الجاهلية، فيعيد إخوانه إلى رشدهم مذكراً إياهم ألا يدعو فرجات للشيطان، ولا يسمعوا لكل منافق فتَّان، وأن يستجيبوا لنداء الرحمن الذي يأمرهم بالاعتصام بحبله المتين ونوره المبين.
وتأتي خاتمة الآية مطالبة المؤمنين بأمر جليل؛ ألا وهو التقوى، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؛ التقوى التي ينبثق معناها من طاعة الله تعالى وتتحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه، هذا الأمر الرباني العظيم يعكس دلالات متعددة، لعل أبرزها:
1- المعاملات جزء لا يتجزأ من ديننا الحنيف، ونحن نتعبد الله بها؛ وبالتالي فإن هذه العلاقة الأخوية في ظلال الإيمان هي قربة وطاعة لله تعالى.
2- المؤمن حريص على تحقيق التقوى في تعامله مع إخوانه استجابة لأمر الله تعالى؛ لذا يعمل على تنقية هذه العلاقة من كل ما يشوبها أو يكدر صفوها من أخلاق سيئة أو مسلك معوج.
3- الثمرة من هذه الأخوة الإيمانية التي تجلت فيها التقوى مسلكاً وسبيلاً، الثمرة جليلة وثمينة، والدليل تلك الختمة المميزة للآية: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، إذن فإن الرجاء المحقق بمشيئة الله تعالى جزاء هذا التآخي الإيماني هو رحمة الله تعالى التي تغمر الأمة المسلمة في الدنيا وتسعدها؛ أفراداً وجماعات، في الآخرة.
هذه الآية الكريمة التي نتأملها هي واسطة العقد في سورة «الحجرات»، تلك السورة التي افتتحت بنداء المؤمنين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات: 1)؛ وفي هذا النداء حث على الالتزام بمنهج الله تعالى واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي السورة حديث مركز عن الجانب السلوكي والأخلاقي، وتأتي الآية التي نتحدث عنها مع باقي الآيات في السورة لتشكل لوحة متناغمة تؤكد النسق التكاملي بين الإيمان والأخوة، وبين الدين والأخلاق، وبين الاتصال الوثيق بالله تعالى وحسن التعامل مع عباده.
لكي تتحقق الأخوة الإيمانية واقعاً معيشاً فلا بد أن يتم تنقيتها من كل ما يكدر صفوها وصفاءها؛ لذا بعيد الحديث عن الأخوة الإيمانية مباشرة جاءت تلك الآيات التي تنهى عن مساوئ الأخلاق التي يمكن أن تسبب خرقاً في جدار هذه العلاقة النبيلة، فنهت الآيات عن السخرية والاستهزاء وعن التنابز بالألقاب وسوء الظن والغيبة، ويلحقها بالطبع كل خلق دني يسبب الشقاق ويزرع الفتن في المجتمع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {11} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات).
كانت تلك وقفات من وحي آية جليلة، ما أحوجنا اليوم أن نعيها ونسعى لتحقق معانيها لننال ثمراتها الرائعة، خاصة أن أمتنا اليوم تمر بفترة عصيبة من التفرق والخذلان والكيد والعدوان!