كثيرة هي المحاولات التي تلح على خاطري أن أكتب فكرة فتح عليَّ بها الفتَّاح، عند صفاء الذهن واعتدال المزاج، فأنشط لذلك نشاط من رزق بمولود بعد اشتعال الرأس ووهن العظم ورحل ربيع العمر، وسرعان ما تفتر الهمة ويقعد العزم فتجف أفكاري حتى ما تبض بقطرة، ثم تتلاشى الفكرة وتذوب كما يذوب الثلج تحت شمس الربيع، ثم تهوى الفكرة إلى سحيق بعيد في ظلام النسيان، وأرى ذلك واضحاً على قلمي وصحيفتي فأراه نافراً وأراهاً ساخرة!
لكن هذه المرة وجدت الأفكار تنساب من مشاعري وكياني كما ينساب الينبوع الدفاق؛ فسارعت إلى القلم لأدبج ما توارد على خاطري من أفكار، فإذا به حديث من أحاديث النفس، لكنه حديث ذو شجون به قطرات من حياض الندم، ودموع نازفة من بحار الألم، وعتاب على نفسي الأمارة بالسوء.
لقد انفرط عقد العمر، وإذا شاب الرجل فإن ليله قد عسعس، وصبح آخرته قد تنفس، وشمس عمره آذنت بالمغيب، فأي شيء يفيده بهاء الشمس وابتسام الربيع لإنسان تصرمت أيامه وتقطعت لياليه، وذهبت نفسه حسرات وحسرات؟!
حداة على الطريق
لما عدت إلى الأضابير عندي، وجدت الإمام ابن الجوزي سبقني، فسكب العبرات وعلا نحيبه إلى رب البريات، فقال معاتباً نفسه بأحرّ الكلمات: «تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسَب، ووزنتها قبل أن توزَن؛ فرأيت اللطف الرباني من بدء الطفولة وإلى الآن، أرى لطفاً بعد لطف، وستراً على قبيح، وعفواً عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان.
ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب، حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق! بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي وقعت بتأويلات فاسدة فصرت إذا دعوت أقول: اللهم بحمدك وسترك عليَّ اغفر لي.
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك، فما وجدته كما ينبغي، ثم أنا أتقاضى منه مراداتي، ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة، فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به، وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود»(1).
كلام كالدر المنثور عاتب به نفسه هذا العالم الجسور يرجو اللطف والرحمة من ربه الغفور، ويا سبحان الله! ما الذنوب التي ارتكبها هذا العالِم الهمام ليحاسب نفسه على تقصيره في حق الملك العلام؟ إن الرجل فرغ نفسه للعلم والتأليف والتصنيف حتى فاقت مؤلفاته العد والحصر، ولم يضيّع لحظة من لحظات عمره سدى، لقد احتفظ الرجل ببري الأقلام ليكون وقوداً لماء غسله عند انقضاء الأجل ووداع الأيام، إنه نوع من محاسبة النفس لا يرتقي إلى سمائه إلا الأئمة الأعلام، وما أروع مناجاته عند مسك الختام: «اللهم ارحم عبداً دل الناس يوماً على طريقك، وارحم عيناً نظرت يوماً في قرآنك، وارحم يداً كتبت حديث رسولك، ولا تعذب يا رب عبداً دل يوماً عليك»(2)! هذا كلام ليس يحلو بعده إلا الصلاة والسلام على خير الأنام.
الشريك الخوان
محاسبة النفس بين الفينة والفينة أمارة على صدق الإيمان ودليل على نقاء القلب من الأدران، وهي سبيل النابهين ودأب الصالحين وسفينة النجاة عند لقاء رب العالمين، مفادها: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل(3).
وهو مطلب شرعي وأمر رباني، قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18} وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر)؛ يقول ابن كثير: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وانظروا ما ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم(4).
قال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك(5).
وفي زمن كثرت فيه دواعي الشهوات وتعددت المغريات وتنوعت الملهيات، على العاقل أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة، كأنه يخاطب مغايراً عنه يهذبه تارة ويعاقبه أخرى ليعرف الربح من الخسران والزيادة من النقصان.
وإلى نفسي الأمارة بالسوء أقول: اعلمي أن الشيب قد عجل إليَّ، وأن الذاكرة قد أصابها العطب، وأيام الصبا أصبحت حلماً بعد يقظة وخيالاً بعد حقيقة؛ فاغتنمي الأوقات في الطاعات، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن نشتري بها كنزاً من كنوز الآخرة، وأعدي يا نفس للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
______________________
(1) صيد الخاطر، ص 541.
(2) المرجع السابق، ص 542.
(3) أدب الدنيا والدين، ص 342.
(4) تفسير القرآن العظيم (4/ 2860).
(5) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، ص 79.