لا يختلف العقلاء على أنَّ العمل المؤسسي والجماعي هو الذي يمكن أن يكتب له النجاح إن توافرت شروطه، وإن كانت له قيوده ومحدداته واحتمال دفع ضريبته الثقيلة.
لا يختلف العقلاء على أنَّ العمل المؤسسي والجماعي هو الذي يمكن أن يكتب له النجاح إن توافرت شروطه، وإن كانت له قيوده ومحدداته واحتمال دفع ضريبته الثقيلة.
المشاريع الناجحة في التاريخ والتي كتب لها الاستقرار كانت نتاج عقول وجهود مشتركة، متفاوتة سعةً وضيقاً وقوةً وضعفاً وبُعداً وقرباً وتبايناً في الأفهام والأعمال حتى شكلت نسيجاً واحداً يصعب إزالته أو اختراقه.
بعض الكفاءات لا يحلو صوته إلا منفرداً، فإذا قال وإذا خطب أقنع، وإن حاور تميز، وإن بادر بهر الآخرين، لكنه فرد واحد وحتى لو كان معه واحد أو اثنان فهم جزء منه يحملون أوراقه وأقلامه ويبلّغون صوته الفردي وهذا منهج “أرسطو” بخلاف أستاذه “أفلاطون”.
حتى الرسل عليهم السلام وإن كانوا مكلفين ومعصومين لم ينجحوا دون الاستعانة بغيرهم، فهذا إبراهيم ومعه زوجه هاجر وإسماعيل، وهذا زكريا معه يحيى، وهذا عيسى وأمه مريم يقول: من أنصاري إلى الله، وهذا موسى يطلب أن يكون معه هارون أفصح لساناً، وقالوا لشعيب عليه السلام: (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ {91}) (هود)، وهذا محمد وخديجة والمهاجرون والأنصار.. ويقول: “أشيروا عليَّ أيها الناس”.
في بلادنا كفاءات تكاد أن تبكي عليها لغيابها؛ لأنها وصلت حد القناعة التي لا تقبل المراجعة أن تبقى وحيدة أو شبه وحيدة فردية إلا من بعض المريدين يائسةً من الناس، خسر الوطن طاقاتها وقدراتها المميزة وخسرتهم الشعوب.
الفردية لا تعني فقط أن يعمل الإنسان بمفرده، فقد يكون رئيساً لمجموعة، أو زعيماً أو رأساً لفريق، لكنه هو صاحب الأمر والنهي، ولا يسمح لأحد أن يشاركه القرار حتى ولو شاركه الرأي مجاملة أحياناً.
ولما قالوا: “ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد”، لم يكن ذلك جزافاً ولا لرفع العتب لكنه الانسجام مع وصف الله للمؤمنين المفلحين الناجحين بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38).
جاء أحد البسطاء لحكيم فقال له: أريد أنّ استشيرك في أمر ولكنني سأرجع إلى رأيي الخاص، فقال له: قم عن مجلسي.
ثقيل على النفس في العمل مع المجموع ألا يؤخذ بالرأي الذي تطرحه وتجادل عنه مرة ومرات، لكن الحفاظ على جهد مضاعف وتحقيق هدف كبير يحتاج لجهود مشتركة مما يقتضي التنازل عن بعض الاجتهاد لصالح المجموع، حتى وإن كان مرجوحاً، ألم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة “أُحد” وقد رأى في المنام رؤيا حق، وقد اجتهد وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأولها ألا يخرج من المدينة المنورة، لكنه نزل عند رأيهم وترك رأيه كارهاً، وكانت النتيجة سلبية، إلا أن القرآن أكد عليه مع ذلك؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159).
أخاطب نفسي أولاً، قبل أن أخاطب الكفاءات المقدرة العظيمة، ولولا الحرج أن أنسى البعض المميز ممن لا أعرف أو أنسى ذكرهم، لسميت أربعة من الأردنيين حاضرة أسماؤهم في ذهني وهم طاقات مميزة، تُرى هل تجد هذه الإشارة أثراً عند بعضهم أرجو أن يكون.
إنّ الصلاح الكامل والنضج الوافي والاستجابة الشاملة لا يمكن أن تحصل ولم تحصل في خير القرون في التاريخ وفي خير الأجيال.
وقد قيل:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
نحن بشرٌ نعيش على الأرض، وسنبقى نسير ونتعثر نخطئ ونصيب، والعظيم الفذ من صبر على الصغير حتى يكبر، وعلى الجاهل حتى يعلم، وعلى المتفرق حتى يجتمع، وعلى الشارد حتى يعود، وعلى المتردد حتى يسير، وعلى المهرول حتى يعتدل.
فيا أيها الموهوبون، يا من لديكم ميزات لم تعطَ لغيركم نعمة امتحنكم الله بها، لا تحرموا الناس تأثيركم ولا تَمنّوا على الناس العاديين، ولا تتعالوا عليهم بقول أو ممارسة من حيث لا تعلمون، ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.
نعم للفردية إيجابيات لا تخفى، منها انطلاق التفكير والشعور بالتحدي مما يدفع إلى الإبداع والإصرار والمثابرة، لكنها لا تستطيع الصمود أمام تحديات كثيرة تحرمها النجاح أو الاستمرار في النجاح إن حَصل، في ظل منهج التكتلات الواسعة في العالم اليوم.
وقد قال خير الناس محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي المرسل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: “لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما”.