يقول العشرات من المراقبين والخبراء في باكستان: إن الإجراءات التي تتخذها السلطات الباكستانية اليوم، وهي إجراءات غير مسبوقة في تاريخ حربها مع الإرهاب، لم تكن بسبب الهجوم على مدرسة الطلاب في بيشاور
يقول العشرات من المراقبين والخبراء في باكستان: إن الإجراءات التي تتخذها السلطات الباكستانية اليوم، وهي إجراءات غير مسبوقة في تاريخ حربها مع الإرهاب، لم تكن بسبب الهجوم على مدرسة الطلاب في بيشاور، بل كان هجوم بيشاور القطرة التي أفاضت الكأس لا غير..
ويقول الخبراء في شؤون الأمن والدفاع: إن إسلام آباد على علم بأنها مستهدفة في عام 2015م، تاريخ إنهاء القوات الأجنبية لتواجدها في أفغانستان، وأنها تلقت تهديدات بأنها ستكون هدف الأمريكيين بعد إنهاء تواجدهم في أفغانستان في نهاية عام 2014م، وتعرف إسلام آباد التهديدات التي ستواجهها بحلول عام 2015م؛ وهو ما جعلها تلجأ إلى سلسلة من الإجراءات الصارمة في تنقية أجوائها، وتصفية أوضاعها، وإنهاء الأخطار القريبة منها وفوضى السلاح في مناطق حدودها؛ لمنع حدوث الأسوأ في عام 2015م.
ويقول الخبراء: إن باكستان تتعامل مع التهديدات التي يطلقها الأمريكيون بمنتهى الجدية، وتدرك أنها ستكون هدفاً قادماً بعد أن يتفرغوا من أفغانستان، وستجد إسلام آباد نفسها في مواجهة سلسلة من القلاقل والاضطرابات، وسيحاول الأمريكيون انتقاماً لفشلهم في أفغانستان خلال 13 عاماً الماضية والتي حملوا فيها باكستان كامل المسؤولية، وأنها ستدفع ثمن ذلك، بعد أن ينهوا تواجدهم في أفغانستان.
ويقول الباكستانيون: إنهم على علم بأن بلادهم ستكون في مواجهة أخطار جمة في عام 2015م، وإن الأمريكيين سيدعمون الجهود الهندية في إسقاط مؤسسات الدولة، وفي إدخال باكستان في فوضى عارمة، وسيبذلون جهودهم من أجل التوصل إلى تحقيق أهدافهم في أن يروا باكستان وهي تنهار؛ ليتدخلوا في شأنها الداخلي؛ بحجة حماية المنشآت النووية والأقليات ومصالحهم، ويفرضوا على باكستان الأمر الواقع.
ومن خلال سرد السيناريوهات التي تواجهها باكستان ومخاوفها من أن هناك مخططاً أجنبياً يستهدفها، وأنها تريد أن تؤكد لهؤلاء أنها ليست شماعة ولا بالونة يمكن النفخ فيها كيف يشاؤون، وإفراغها متى يشاؤون، فان الباكستانيين وضعوا خطة تقوم على القوة وعلى نظرية الوقاية خير من العلاج؛ لمنع أي محاولة لإضعافها وتفكيكها.
سيناريو الإرهاب العالمي:
وتحت هذا المسمى، فإن باكستان تدرك أن الغرب وعلى رأسه أمريكا سيحاولون تجربة سيناريو سبق لهم أن جربوه مع أفغانستان؛ وهو ربط بقاء أفغانستان وحكومة “طالبان” في عام 2001م بتسليمها أسامة بن لادن، ومع رفضها جرى الهجوم عليها وتدميرها، ويرى اليوم أن تجديد أمريكا وضع زعيم جماعة الدعوة الباكستانية مع نهاية عام 2014م في قائمة الإرهاب، ورصد للقبض عليه 10 ملايين دولار، وهو شخصية دينية تتمتع بحريتها في باكستان، وتجول في أطرافها المختلفة، يعد ذلك أمراً قد يشهد تطورات في الحقبة القادمة، وسيحاول الأمريكيون وبالتعاون مع الهند اعتبار حافظ سعيد، زعيم جماعة الدعوة، مطلوباً أمنياً بالدرجة الأولى، وسيتم التهديد باعتقاله مقابل أن تمتنع عن تهديد باكستان بمختلف الوسائل، ولم يستغرب المراقبون حينما سارع الأمريكيون إلى توقيت إعلانهم رصد 10 مليون دولار للقبض على حافظ سعيد حياً أو ميتاً، والإبلاغ عن تحركاته؛ إذ إنهم اختاروا عشية انسحابهم رسمياً من أفغانستان وشروعهم في إنزال أعلام القوات الأمريكية وقوات “إيساف” من العاصمة كابول ليؤكدوا للعالم نهاية حرب دامت 13 عاماً خسروا فيها 5 آلاف جندي بين أمريكي ومن القوات الغربية، وكلفت هذه الحرب 100 مليار دولار، وسارع الأمريكيون إلى إصدار هذه القائمة عشية إنهائهم الرسمي لهذا الاحتلال لأفغانستان، حيث جددوا مكافأتهم لكل من زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري المتهم بأنه يرتع ويتواجد في المناطق القبلية الباكستانية وعلى مقربة من الحدود، والملا عمر زعيم “طالبان” المتهم بأنه يتلقى تأييداً واسعاً من الباكستانيين، وزعيم “جماعة الدعوة” حافظ سعيد المتهم بتفجيرات بومباي في الهند والتي أسفرت عن مقتل المئات من الهنود وبينهم مواطنون أمريكيون يهود، وجميعهم يبقون قريبين من باكستان بشكل أو بآخر؛ وهو ما يرشحها بأن تكون منطقة خطيرة مستقبلاً ومهمة للأنشطة الاستخبارية العالمية.
وفي حالة قرر الأمريكيون إعادة تجربة هذا السيناريو الذي جربوه في أفغانستان في أكتوبر2001م بعد أن ربطوا استمرار حكومة “طالبان” بتسليمها أسامة بن لاد،ن وبعد رفضها كما هو معروف أسقطت الحكومة الإسلامية وغزا الأمريكيون أفغانستان وقتلوا أسامة بن لادن، لكنهم فشلوا في القضاء على “طالبان” التي أثبتت أنها قوة لا تُقهر في أفغانستان، ولن يتمكن لا الأمريكيون ولا غيرهم في إنهائها وحرمانها من البقاء.
وفي حالة ربطوا حافظ سعيد بأمن واستقرار باكستان بعد رصدهم 10 ملايين دولار للقبض عليه، وهو قيادي يعيش في مدينة لاهور ولديه شقة في مدينة لاهور في منطقة “تجاربورجي”، ويتواجد على مدار الساعة في مكتبه في منطقة “القادسية” بوسط مدينة لاهور، ويتردد يومياً على مقر جماعته الصيفي ومقر جامعته في مدينة مريدكي البعيدة نحو 34 كلم عن مدينة لاهور، وليس بالشخص المتخفي حتى يتحدث عن وجوده في المنطقة.
وكان حافظ سعيد قد طالب الأمريكيين بأنه مستعد للمحاكمة، لكن ليس في محاكمهم، بل في المحاكم الدولية النزيهة والشفافة، وليس خائفاً؛ لأنه لم يرتكب ما يجعله يخشى على حياته.
ويرى حافظ سعيد أن المشكلة ليست مع أمريكا، ولم يرتكب عملاً إرهابياً واحداً فيها يسمى إرهاباً، وأنه يفتخر في الوقت نفسه بأنه قاد معركة تحرير كشمير، ولم يأسف عن هذا الأمر، وما زال يطالب المقاومة الكشميرية والرجال الصادقين في الحكومة الباكستانية بمواصلة دعم هذه المعركة حتى يتم إنهاء سيطرة الهند في كشمير، ومن أجل تمسكه بهذه المقاومة وبهذا الطريق تعرض للعشرات من محاولات اغتياله في السنوات الماضية نجا منها جميعها، وجرى القبض عليه في عام 2009م، وظل في المعتقل لعام كامل، وجرى حظر جماعته (جماعة الدعوة)، ثم برأته المحكمة الباكستانية؛ بسبب عدم وجود أي أدلة تجعله مداناً أو متورطاً.
وتعتبر جماعته اليوم من أكبر وأنشط الجماعات الدينية والخيرية؛ حيث باتت تتواجد في أرجاء البلاد، وتقدم عمليات إغاثة لا تستطيع حتى الحكومة تقديمها، وأنها باتت تنافس حتى قوات الجيش في مناطق لا يستطيع غير الجيش الوصول إليها، وعلى هذا الرأي، فإن إعلان أمريكا هو في الأصل محاولة لإرضاء الهند مقابل مساعدتها على التصدي للمارد الصيني ومنعه من السيطرة على العالم لا غير.
وسيقوم الرئيس الأمريكي خلال أسابيع قليلة بزيارة الهند، وأنه بإعلان بلاده عن رصدها 10 ملايين دولار للقبض على حافظ سعيد، وعبدالرحمن مكي، نائبه الأول، يتضح أن ما يقوم به الأمريكيون هو إرضاء للهند على حساب باكستان، وأن ما يصنعونه ليس بسبب تضررهم به، بل لأن الهند تريد منهم هذه المساعدة.
استخدام الإرهاب الدولي ضد باكستان:
ويقول المراقبون: إن حادثة بيشاور كانت إشارة واضحة من أن باكستان قد تواجه رعباً في عام 2015م لا يقل عما شهدته بيشاور، وإن الإرهاب العالمي المتواجد في مناطق القبائل وفي أفغانستان سواء كان باكستانياً أو أجنبياً قادر على تعريض أمن واستقرار باكستان للخطر، وأراد الضالعين في هجوم بيشاور وليس المنفذين، فهم مجرد أداة، ولكن من يقف وراءهم مالياً وعسكرياً وتخطيطاً إفهام إسلام آباد أنها ستعيش أحلك أوقاتها بعد أن تنتهي مهمتهم في أفغانستان، وأنها ستكون الهدف القادم بعد فشل مهمتهم في أفغانستان، وسيحاولون تكرار هجمات تشبه هجمات بيشاور، وأنهم سينفذون هجمات أكثر خطورة.
ويبدو أن الباكستانيين على علم بهذا السيناريو، وأنهم تحركوا قبل حدوثه في زيارة قائد أركان الجيش الذي رفض العودة إلى بلاده إلا بعد أن اجتمع مع رئيس الدبلوماسية الأمريكية، حيث انتظره أسبوعين كاملين ليجتمع به ويفهمه أن باكستان هي ضحية الإرهاب الدولي، وهي ضحية “القاعدة” والمجموعات الإرهابية العالمية، وليست ضالعة في هجماتهم أو داعمة لهم، وحاول قائد الجيش إفهام هذا الأمر إلى القادة الجدد في أفغانستان، وإفهامهم أن باكستان دعمت معتدلي “طالبان”، وأيدت مطالبهم المشروعة، وليست ضد نظام الحكم الحالي، وستعمل كل شيء من أجل دعمه سواء بدعم الحوار وحمل من يستمعون إليها في صفوف “طالبان” إلى وقف تهديداتهم للحكومة الحالية، وبدلاً من محاربتها السعي إلى التفاهم معها، وتشكيل حكومة وحدة وطنية معها.
وكما أن باكستان أدت دوراً رئيساً في ظهور مشروع “طالبان” في عام 1994م، يمكنها – وفق المراقبين – الضغط عليهم لعدم تعريض أمن واستقرار الحكومة الحالية والدخول معها في حوار مباشر.
وسيكون الأمر مفتوحاً على كل السيناريوهات؛ إذ إن “طالبان” قد توافق على الحوار وقد ترفضه، وقد تنقسم على نفسها في هذا الشأن، وقد توافق أطراف بداخلها وترفض أطراف أخرى؛ حيث إن زمن الاحتلال الأجنبي وحَّد الصف وجعل موقف باكستان قوياً ولجأت إليها وإلى أراضيها وقواعدهم اللوجستية، لكنهم اليوم وبعد انسحاب أمريكا وحلفائها قد يتغير الأمر برمته، وتعرف باكستان أن العشرات من الأجهزة الاستخبارية العالمية متواجدة في أفغانستان، وتنشط في المنطقة، وترى في باكستان الهدف المشروع لها مستقبلاً، وأنها تريد النيل منها، وأن توافد المئات من الإرهابيين من خارج باكستان وأفغانستان في الفترة الماضية ومنحهم قواعد لوجستية يؤكد أنهم سيتم استخدامهم في عمليات إرهابية داخل باكستان لإرباكها، ولن يبقى الدور الخارجي والاستخباري منصباً عليهم، بل سيحاول رفع أنشطة الجماعات الانفصالية في إقليم بلوشستان بالخصوص، وتحريضهم على رفع حجم هجماتهم الداعية إلى فصل بلوشستان عن باكستان، وتدرك باكستان أنهم شرعوا في توحيد قادة الانفصال المقيمين في الغرب، وأنهم شرعوا في مدهم بالوسائل والمساعدات، وتحت ذريعة حقوق الإنسان المهضومة قد يشرعون في حثهم على استرجاع حريتهم بقوة السلاح، وتحت دعم دولي وأممي كما سبق لهم وأن صنعوه في السودان وغيرها.
الرأي: يمكن للغرب أن يستخدم ورقة بلوشستان مثل ورقة حافظ سعيد لإرباك باكستان وتفكيكها وإضعافها وإدخالها في سيناريو أسود، وسيمكننا ملاحظة هذه الأمور مع بداية عام 2015م في مناطق القبائل والمدن الكبرى وإقليم بلوشستان، وستتضح لهجة الغرب وأمريكا إزاءها أكثر فأكثر، وفي حالة تمكنت باكستان فعلاً من النجاة من التمزيق والتفكك والخطر الإرهابي في عام 2015م فستكون دولة محظوظة جداً، وإلى جانب هذه الأخطار، فإن هناك سيف عمران خان، وطاهر قادري، فهما يعتقدان أنهما خسرا معركة وليس الحرب، وأنهما حافظا على التضامن الباكستاني حول مآسي الإرهاب، وأوقفا حراكهما بشكل مؤقت لا غير، وأنهما سيختاران الوقت المناسب للعودة إلى إسقاط الحكم وإرباك النظام في أي لحظة في باكستان بعد مطلع عام 2015م، وهذا الأمر سيساعد الغرب والأمريكيين في تحقيق أهدافهم؛ إذ إنه في حالة سقطت الحكومة ستشهد عملية مواجهة الإرهاب خللاً، وسيتمكنون من تحقيق أهدافهم في بلوشستان ومناطق القبائل.
إنزال العلم الأمريكي والأممي في أفغانستان بعد 13 عاماً:
قامت القوات الدولية والأمريكية في أفغانستان يوم الأحد 28 ديسمبر 2014م بإنزال أعلامها من أفغانستان بعد أن ظلت ترفرف في العاصمة كابول ومؤسساتها الأمنية لمدة 13 عاماً، ونظم الأمريكيون وضباط قوات “إيساف” في مكان خفي في العاصمة كابول وتحت إجراءات أمنية كبيرة حفل تسليم مهمة الإشراف الأمني في أفغانستان إلى القوات الأفغانية الوليدة، واعترف قادة القوات الدولية بأن مهمتهم في أفغانستان لم تكن سهلة طيلة 13عاماً التي أمضوها في أفغانستان يواجهون مقاتلي “طالبان”، وكلفتهم هذه الحرب 3500 جندي بينهم 2200 أمريكي لقوا مصرعهم فيها، وفق الاعتراف الرسمي.
وفي نهاية عام 2014م تاريخ انسحاب القوات الدولية من أفغانستان ارتفعت حصيلة القتلى في صفوف الجيش الأفغاني ورجال الأمن إلى 4 آلاف جندي، وهو أعلى معدل يسجل منذ 13 عاماً خلت في عام واحد، وتقول “طالبان”: إنها خسرت 30 ألفاً من مقاتليها في هذه الحرب طيلة الفترة نفسها، بينما بلغ عدد الخسائر البشرية في صفوف المدنيين ما لا يقل عن 50 ألف شخص على الأقل، بينهم 20 ألفاً قتلوا فقط بين عامي 2009 و2014م، وسترتفع هذه الأرقام لأنها تقديرية وليست نهائية بعد أن يشرع في إحصاء عدد الخسائر.
وكانت طالبان قد سارعت إلى القول: إن القوات الدولية اعترفت بالهزيمة بعد إنزال أعلامها وستعود إلى أوطانها مخزية، بينما أعلن الرئيس الأمريكي أنهم بنوا أفغانستان الحديثة، وشيدوا مؤسسات الحكم فيها بعد أن كانت غارقة في الحرب الأهلية والصراعات.
ويبقى السؤال المطروح اليوم: هل ستشهد أفغانستان فعلاً استقراراً كما يقولون بعد انسحابهم، أم أنها ستدخل في نفس الخانة التي دخلت فيها العراق بعد أن انسحب منها الأمريكيون؛ وهي الاقتتال الطائفي، وانهيار مؤسسات الدولة، وتفكك البلاد وانقسامها؟