السفير د. عبدالله الأشعل
هل يحقق الإعلان ويؤمِّن مصالح مصر المائية في نهر النيل؟ وهل أزال المخاوف من آثار سد النهضة عملياً؟ وهل كان الأفضل عدم توقيعه؟ وكيف نفهمه؟
من الواضح أن السودان يوافق مع إثيوبيا على السد، وأن مصر هي الوحيدة المتضررة، فماذا قدَّم الإعلان لمصر من الناحية العملية لا الدعائية؟ لا شك أن التقارب مع إثيوبيا أمر مطلوب، ولكن ثمرة التقارب يجب أن تسهم في تأمين حقوق مصر المائية؛ وهي استمرار حصولها على 55.500 مليار متر مكعب المقررة في الاتفاقية المصرية السودانية لعام 1959م، والتي لا تعترف بها إثيوبيا ودول الحوض، مع ملاحظة أن مصر كانت تحصل على ما يسمى سُلفة مائية قدرها ثمانية ملايين متر مكعب احتاج إليها السودان بعد توتر العلاقات عام 1995م وانفصال جنوب السودان، والثابت أنه مع هذه الحصة وتزايد الاحتياجات المائية تحتاج مصر إلى ضعف حصتها المائية، فإذا صح أن سد النهضة وحده، دون سدود أخرى مرتقبة، يحتاج إلى 75 مليار متر مكعب طوال ملئه خلال 5 سنوات، وهذه المياه لن تطلق في النهر مرة أخرى، لأنها تستخدم حسب نص الإعلان في توليد الكهرباء والتنمية المستدامة؛ يكون احتمال حجب كميات متجددة وارداً، وتحدث الإعلان عن الملء الأول؛ مما يشي بأن هناك عدداً من مرات الملء؛ هذا يعني أن مصر سوف تحصل على نصف حصتها تقريباً من المياه، خاصة وأن الإعلان خلا من أي مرجعيات قانونية لحقوقها وسند لدعمها في أحوال التنازع، بل وأضاف الإعلان ضمانتين لصالح إثيوبيا إلى المعايير الخمسة التي تضمنتها المادة الخامسة من معاهدة الأمم المتحدة الخاصة بالاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية لعام 1997م.
ونسجل تحليلنا للموقف من الإعلان في الملاحظات العشر التالية، مع ملاحظة أن النيل هو حياة المصريين جميعاً، وأن واجب الحكومة دراسة الملاحظات باهتمام للاستفادة في تحسين الموقف المصري وليس للكيد السياسي وإخراس المتابعين.
فهل عالج هذا الإعلان حتى من الناحية النظرية هذه الثغرة؛ أي حقق لمصر ضماناً بأن هذه الكمية لن تتأثر؟
الملاحظة الأولى هي أن الإعلان مجرد ترديد للمبادئ المنقولة بالحرف من معاهدة عام 1997م دون حتى الإشارة إليها، صحيح أن مصر وإثيوبيا لم تنضما إليها، وقد بدأ سريانها منذ 17 أغسطس 2014م، ولكنها صارت عُرفاً ملزماً.
الملاحظة الثانية: اقتصر الإعلان على مصر والسودان وإثيوبيا وعلى النيل الأزرق وحده، دون النيل الأبيض وجنوب السودان، فالنيل الأزرق يبدأ من بحيرة تانا في إثيوبيا، ويحمل معظم المياه لمصر (85%)، أما النيل الأبيض فيبدأ من بوروندي، ويمر بجميع دول الحوض حتى يلتقي مع الأزرق في الخرطوم.
الملاحظة الثالثة: هي أن إعلان المبادئ هو مجرد مبادئ تسترشد بها الدول دون إلزام، في مفاوضاتها التفصيلية حول المشكلة التي خلفها سد النهضة عندما تحجب المياه لملئه، فماذا أفاد إعلان مبادئ أوسلو في فلسطين؟ نذكر هنا بقرار “سليمان ديميريل”، الرئيس التركي عام 1991م، الذي استغل محنة العراق، فأغلق نهر الفرات لكي يملأ سد أتاتورك بالمياه لمدة 33 يوماً، ترتب عليها شح قاتل لسورية والعراق وتدمير المحاصيل ونفوق الحيوانات، خاصة وأن الأنهار الصغيرة البديلة في سورية تحت الهيمنة الصهيونية في الجولان.
وكان حجب مياه الفرات لازماً لري منطقة الأناضول وليس عقاباً لأحد، ولكن أضرار الحجب عند الآخرين فاقت بكثير منافعه عند تركيا، حتى أعلنت يومها أن النهر وموارده كالبترول، ثروة طبيعية، وهذه نظرية خطيرة؛ لأن الماء جزء من الطبيعة والحياة قبل أن تعرف البشرية سائر المعادن ومنها البترول.
الملاحظة الرابعة: هي أن مصر وحدها هي المتضررة من السد باعتبارها دولة المصب الوحيدة، ولكن الإعلان تجاهل ذلك تماماً، واعتبر السودان هي الأخرى دولة مصب، وهذا غير صحيح؛ لأن النهر من نوع الأنهار التتابعية، فيكون السودان دولة وسطى Middle stream State تستطيع أن تمنع المياه عن مصر، كما أنها تقتسم مع جنوب السودان ما زاد على حصة مصر، ثم أن هذه الحصة مضمونة فقط في اتفاقية ثنائية كما ذكرنا، وقد عامل الإعلان الدول الثلاث على قدم المساواة بدءاً من الديباجة دون نظر إلى مشكلة مصر واحتياجها الحاسم للنيل بخلاف السودان وإثيوبيا.
الملاحظة الخامسة: إذا كان الإعلان قد ظل نظرياً خالصاً، فإنه لم يشر إلى أي معاهدة دولية تسند حق مصر وموقفها وأهمها معاهدة عام 1997م التي أكدت محكمة العدل الدولية في أكثر من مناسبة أنها ملزمة بقدر ما تتضمنه من عرف دولي مستقر في مجال الاستخدام المشترك لمجاري الأنهار الدولية، وكذلك معاهدة عام 1929م بين مصر وبريطانيا بصفتها مستعمرة لأوغندا حينذاك ومصر المستقلة ولو اسمياً.
وإذا كانت إثيوبيا ودول الحوض لا تعترف بالاتفاقية المصرية السودانية لعام 1959م حول الاستخدام الثنائي المشترك لمياه النيل، فكان الأولى أن يتم التركيز على المعاهدة الدولية الشاملة لعام 1997م والاتفاقات الملزمة لإثيوبيا، ومنها بروتوكول روما لعام 1892م بين بريطانيا المحتلة لمصر حينذاك وإثيوبيا المستقلة.
كما أن إثيوبيا ملتزمة بالاتفاق الثنائي مع مصر عام 1993م، والمعلوم أن جميع الاتفاقات الضامنة لحق مصر في مياه النيل كانت معاهدات حدود، وبعضها بين دول استعمارية، ولذلك أكد “نيريري”، رئيس تنزانيا عام 1964م، نظرية الصحيفة البيضاء Tabula Rasa؛ أي أن الدولة لا تلزم إلا بما تقر من معاهدات يكون المستعمر طرفاً فيها ونيابة عنها، وقد أخذت اتفاقية فيينا بشأن التوارث في مسائل المعاهدات لعام 1978م بهذه النظرية انتصاراً لإرادة الدول المستقلة عن الاستعمار، لكنها تحفظت في المادتين (11)، و(12) بأن التوارث لا يمس الأوضاع الإقليمية والحدود ومنها الأنهار بالطبع.
ولا يجدي في إغفال المعاهدات السابقة ما صرح به المتحدث باسم الرئاسة المصرية من أن الإعلان يخص سد النهضة وحده، ولا يخص مجمل مياه النيل، وهذه قراءة خاصة ليس لها دليل في نصوص الإعلان، فلا هو عالج مشكلة السد بشكل مباشر مرضٍ لمصر، ولا هو أورد المعاهدات كخلفية أساسية في أي إعلان أو اتفاق، حتى لا يسبح هذا الإعلان في الفضاء وحده وفي خيال من أبرموه.
الملاحظة السادسة: بالنسبة للسودان، هل حل إعلان المبادئ محل الاتفاق المصري السوداني لعام 1959م؟ وهل يقضي الإعلان بالتفاوض بين مصر وكل من السودان وإثيوبيا على حدة؟ قد لا يكون الإعلان مكان الرد على هذا التساؤل، ولذلك يجب على مصر أن تؤكد مع السودان أهمية استمرار اتفاق عام 1959م الذي لا يخدم سوى مصر، وكان إلحاح مصر عليه لحاجتها إلى تأمين حصة محددة تعتمد عليها بعد الاتفاق على بناء السد العالي لتفادي فيضان النيل، والذي يسميه السودان “سد النوبة”.
الملاحظة السابعة: إذا كان نهر النيل هو مصدر الحياة الوحيد بلا أمطار على الأقل منذ العصر الجليدي حوالي 3400 ق.م تقريباً، ونشأت على ضفافه حضارة الفراعنة، فإن لدى إثيوبيا الأمطار الغزيرة والأنهار العديدة، حيث يعد النيل هو النهر الخامس الأكبر في إثيوبيا الذي يمر في هضبتها الاستوائية، وكان المصريون يعبدون النهر، كما كان التقويم النيلي يقوم على ثلاثة دورات للنيل، هي Akhet وتعني الفيضان، وPeret وهي موسم الزروع، وShemu أي موسم الحصاد.
الملاحظة الثامنة: هي أن الإعلان أشار إلى السد بعبارات غامضة تعطي انطباعاً بموافقة مصر مع السودان عليه باعتباره أداة للتكامل الإقليمي، يقول المبدأ الثاني من الإعلان: إن لسد النهضة غرضين إلى جانب الكهرباء؛ وهما المساهمة في التنمية الاقتصادية (لمن؟)، والترويج للتعاون عبر الحدود والتكامل الإقليمي من خلال توليد طاقة نظيفة مستدامة، يفهم من هذا أن كهرباء سد النهضة يتم بيعها في المنطقة، ويكون لمصر والسودان الأولوية في الشراء دون مزايا تفضيلية، أما المبدأ الثالث، فهو يرتب التزاماً على الدول الثلاث بالتساوي بألا تُحدث ضرراً في استخدام النيل الأزرق، والمعلوم أن دولة المنبع هي التي تسبب الضرر خاصة لدولة المصب وإذا أحدثت أي من الدول الثلاث “ضرراً ذا شأن” فتكتفي الدولة المسببة له بالاعتراف به، أما المبدأ الخامس فهو يسرب مفهوماً وهمياً بأن الملء الأول وتشغيل السد عمل مشترك بين الدول الثلاث، ولكن القرار لمالك السد.
الملاحظة التاسعة هي أن الإعلان قد اعتمد بشكل مطلق على حسن النية، فماذا لو لم تكن النوايا سليمة؟ وما قيمة حسن النية إذا أغفلت دولة المصب الاحتياجات القاتلة لدولة المنبع؟ خاصة وأن الإعلان تعاطف تماماً مع إثيوبيا على عكس اتفاقية عام 1997م التي مالت لدول المصب، فابتدع الإعلان معيارين إضافة إلى معايير المادة الخامسة من المعاهدة وهما: (ح) مدى مساهمة كل دولة في محصول النهر، وهو ما يعطي إثيوبيا في توزيع المياه حصة توازي ما تسهم به في مياه النهر، أما المعيار (ط) المضاف فهو المساحة من النهر التي تقع في الدولة ومساحته في مصر أقل من ألف كيلومتر بينما يمر منه آلاف الكيلوات في إثيوبيا، وهذان أغرب معيارين لم تعرفهما 52 من أحواض الأنهار الدولية، فهي معايير لا علاقة لها بتوزيع المياه.
الملاحظة العاشرة، هي أن الإعلان ضيق أساليب التسوية السلمية للمنازعات، وصادر حق مصر في التحكيم والقضاء الدولي مقارناً بـ(المادة 33) من معاهدة عام 1997م، كما لم يحل الإعلان إلى أي إطار أفريقي.
مما يذكر أن عشر دول أفريقية انضمت إلى المعاهدة ووقعتها جنوب أفريقيا وناميبيا، ومن المرغوب فيه أن تدرس مصر الانضمام إليها، علماً بأننا أشرنا إلى أن مبادئ المعاهدة صارت قواعد عرفية ملزمة حتى دون الانضمام إليها مثلما أكدت محكمة العدل الدولية.
الخلاصة: لم يسهم الإعلان في معالجة المشكلة المائية لمصر في سد النهضة، بل إن السودان وإثيوبيا نجحتا في ضم مصر وإنهاء معارضتها؛ مما أفسح الطريق لرفع التحفظ الدولي على المضي في استكمال السد، لقد صار الإعلان عربوناً للتقارب مع إثيوبيا من جانب مصر الجديدة الأليفة.