منذ عام 1984م، عندما كتبت بحث “لعبة الفن الحديث” وحتى يومنا هذا، مارس 2015م، تزايد إثبات وتأكيد كل ما طرحته فيه من قضايا مصيرية، مرتبطة بالمذاهب الناجمة عنه كالفقاعات، كما تأكد كل ما قمت بالربط بينه وبين مجالات تبدو غريبة متنافرة، لتوضيح الخلفيات الحقيقية المستترة والمحركة له كأداة تدميرية للحضارات وللإنسان، وهى خلفيات حيكت خيوطها بضراوة، لأنها تمثل جزءاً لا يتجزأ من النظام العالمي الجديد؛ أي أنه تم اختلاقها لسبب محدد؛ تدمير كل المقدسات الأخلاقية والدينية، وفرض كافة الإباحيات والمجون بحيث تبدو طبيعية ومألوفة!
وهذا النظام العالمي الجديد هو برنامج قائم على أن يسود العالم نظام سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وفكري، وديني واحد؛ لتسهل قيادته؛ أي أنه قائم على أربعة محاور، تم تقريباً تنفيذ الثلاثة الأولى منها، وذلك باقتلاع اليسار في عقد الثمانينيات، بحيث لا يبقى سوى النظام الرأسمالي بكل شراسته، وتوحيد الخطوط العريضة للاقتصاد بإقامة اقتصاد السوق والشركات عابرة القارات، كما تم تدمير الأخلاقيات والقيم وفرض الفُحش والمخدرات حتى باتت هذه الموبقات تبدو وكأنها شيء معتاد أو طبيعي تسود المجتمعات! وقد اختلقوا بدعة “الجندر” أو “النوع”، وحاولوا فرضها منذ أيام مؤتمر المرأة والسكان (عام 1995م)، وإمكانية أن يقوم الفرد بتغيير جنسه بالاختيار والممارسة، بل لقد تم إدخال نظرية “الجندر” هذه في المدارس الفرنسية هذا العام، في المرحلة الابتدائية، وفرض غرامة على الأهالي الذين يمنعون أطفالهم من حضور هذه الدروس الماجنة المخلة بالطبيعة التي فطر الله الإنسان عليها.
كما قامت رئيسة وزراء أونتاريو الشهر الماضي بإدخالها في المدارس، لكن ابتداءً من سن التاسعة! وهم يقومون في هذه العقود بتدمير المحور الديني وخاصة الإسلام، بعد أن قاموا بشيطنته منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، فما يقوم به الغرب حالياً وخاصة الفاتيكان هو تنصير العالم بإصرار، بقرار لا رجعة فيه منذ مجمع الفاتيكان الثاني (عام 1965م).
وإذا عدنا إلى المجال الفني، لوجدنا أنه قد تم إغراق السوق الغربية في وقت متزامن ومتتالٍ بسيل من الفنانين الذين تم استقطابهم، واختلاق كمّ لا حصر له من المذاهب المتفجرة كالفقاعات، إذ أحصيت حينما شرعت في كتابة بحثي 172 مذهباً، أدرجت أسماؤها في نهاية البحث، كما تم استقطاب كمّ آخر من الكتّاب والنقاد لترويض الجمهور على تقبل القبح والإباحيات في أبشع صورها، حتى بات كتابي هذا لا يحذر مما يدور وسيدور، وإنما أصبح يبدو وكأنه كُتب بالأمس، لما أصاب المجتمعات من انحطاط وانحراف مفروض.
ففي النصف الثاني من القرن العشرين لم يكن أحد يفكر أو يدرك، على الأقل في بلداننا العربية والمسلمة، أن هناك صلة ما بين مجال فن التصوير وعدة مجالات أخرى كالسياسة، والاقتصاد، والبورصة، وغسيل الأموال، والمخدرات، أو حتى بينها وبين هدم القيم الأخلاقية الإنسانية والدينية في كل المجتمعات، حتى صار القبح والهدم الذاتي والإباحيات المنفلتة والتبعية الممجوجة للغرب يمثل أهم صفات زمننا هذا، ولم يتم فرض هذه المذاهب المتدفقة في فن التصوير فحسب، وإنما في كل مجالات التعبير الفني كالنحت والموسيقى والأدب بأنواعه والمسرح، وهى المجالات المكونة اجتماعياً للوجدان الإنساني إجمالاً.
بينما تزايد في الوقت نفسه عدد الكتّاب والنقّاد المأجورين، الذين يهللون ويروّجون لكل هذه الانحرافات المغرضة، المفروضة على الصعيد العالمي تحت مسمى “حرية التعبير”، و”حرية الإبداع”، و”الابتكار”، أو “التقدم والرقي” تقليداً للغرب! فالنقاد يكتبون ما يمكن أن يوضع تحت أي لوحة من تلك العبثيات، بلا أي فارق، المهم هو تمجيد ذلك الفراغ المتدني وذلك الانحلال المجرّد من أي معنى؛ ليألف الجمهور القبح والانفلات وفقدان القيم.
وقد وصلت القحة في الاستهتار وامتهان شعور المتفرج في القرن العشرين أن ابتدعوا ما أطلقوا عليه “فن البراز” (ShitArt)! فقام الفنان “بييرو مانزوني” (PierroManzoni) بعرض برازه كعمل فني، ثم تمادى في إسفافه وتبرز في علب معدنية جديدة وأغلقها، وكتب على شريط الورق الذي يحيط بالعلبة عبارة “براز فنان”، وقام بالتوقيع باسمه على سطح العلبة، ومن المحزن أن يتم بيع العلبة بآلاف اليوروهات، بل وأن تتهافت المتاحف في الغرب على اقتنائها، بينما أقام “فرانسيس بيكون” معرضاً تحت عنوان “الرجل والمرحاض”! أما “ﭽف كوونز” (Jeff Koons) فتمادى في الإسفاف ليصور نفسه في علاقاته الحميمة مع زوجته في عدة لوحات كتب عليها “صنع في السماء”، أو في عمل مجسمات من البلاستك المنفوخ بإيحاءات جنسية فاقعة اللون، وقد بيع المجسم المدعو “Balloon flower Magenta” بما يعادل 16.343 مليون يورو في قاعة “كريستيز” عام 2008م، وهنا تكمن عملية غسيل الأموال، لأنهم حين سنّوا قوانين هذا الانفلات التدميري للمجتمعات أصدروا تشريع إعفائه من الضرائب، وكم من موبقات تتم تحت مسمى هذا الإعفاء!
ففي 16 مارس الحالي (2015م) أعلنت مجلة “لوبوان” الفرنسية كما أوردته أيضاً جريدة “الفايننشيال تايمز” البريطانية، إلقاء القبض على رجل الأعمال السويسري “إيڤ بوڤييه” والتحفظ على أمواله، وهو من كبار تجار الفن؛ وذلك بتهمة النصب والتواطؤ في غسيل الأموال بإصدار فواتير مبالغ فيها بعشرات الملايين من اليوروهات في صفقة بيع لوحات للملياردير الروسي “دمتري ريبولوڤليڤ”، كما أشارت أن سوق الأعمال الفنية التي تزدهر أساساً في كل من موناكو وسويسرا وسنغافورة، تبلغ قيمة المعاملات فيه أكثر من خمسين مليار يورو، وأنه يُعد مجالاً واسعاً لغسيل الأموال والتهرب الضريبي، وسوف يتم انعقاد مؤتمر في مدينة جنيف، في نوفمبر القادم، هذا العام، لمناقشة وضع الفن وغسيل الأموال، أي أن “الضمائر” هناك بدأت تصحو بعد قرابة القرن من التلاعب وغسيل الأموال وفرض الانفلات وبعد أن بات القبح شيئاً مألوفاً!
والمحزن بل والمخجل في آن واحد أن نرى، هنا في مصر، مَنْ انساق في هذا الانحطاط وأقام معرضاً بالألوان المائية، تم استلهامه من فرج ابنته، دون مراعاة لأي حرمة من الحرمات، وقام النقاد بتمجيده على أوسع نطاق آنذاك بل وحتى بعد مماته! وانساق العديد في تصوير الإباحيات، لكي لا أقول شيئاً عما أصاب مستوى خريجي الكليات الفنية من تدهور نتيجة لفرض عبثيات الغرب بلا وعي أو فهم لما تخفيه، ويكفيهم أسفاً ومهانة ضياع ملكة الرسم التي هي بمثابة العمود الفقري لفن التصوير.
والأكثر أسفاً أن يلجأ العديد منهم إلى محاكاة الغرب في التمويه على فقدانه موهبة الرسم واختلاق مذهب “الهايبر رياليزم” (Hyperrealism) القائم على طبع موضوع ما بالفوتوغرافيا على اللوحة، ثم يقومون بإضافة بعض اللمسات بالألوان الزيتية، فتبدو اللوحة غاية في الدقة، بما أنها قائمة على طبع صورة فوتوغرافية، وانساق المقلدون هنا في بلداننا العربية، متناسين أنهم بتقليد ذلك التيار تحديداً قد تحولوا إلى عمالة من “البُهْيَجية” أو “النقاشين” بل والمزورين.. فما يعرضونه على الجمهور لا يمثل مستواهم الفعلي، وإنما هو نوع من التحايل والتزوير.
وقد اعترف بعض الذين انساقوا أو قادوا هذا التخريب في الغرب، بعبارات جد كاشفة لتلك اللعبة، لعبة الفن الحديث، كأن قال الفنان “سلفاتور دالى”: “الفن المعاصر عبارة عن مؤسسة دولية للحماقة”، أو أن يقول “أنطوان تسابوف” (A. Tzapoff) عن ذلك الفن: “المهم تدمير كل القيم شريطة عدم المساس بالسياسة، ودفع الإنسانية إلى أقصى أطراف الغباء وإلى تقبل البشاعة”، أو أن يعترف “بابلو بيكاسو”، للكاتب الإيطالى “چيوڨانى بابيني” (G. Papini) بما تم نشره في “الكتاب الأسود” الإيطالي عام 1952م، وأعيد نشره في جريدة “ريفارول” يوم 12 أبريل 1973م:
“يمكن للفنان أن يمارس موهبته بكل الأساليب الجديدة، وكل شطحات خياله، بكافة وسائل الدجل والشعوذة الثقافية، فلم يعد الشعب يبحث في الفن عن المواساة والتشجيع، لكن المرفّهين الأثرياء العاطلين، الباحثين عن التميّز، يبحثون عما هو جديد، عما هو غريب، عن النقود، عن المبالغة وعما هو فاضح.. وأنا نفسي، منذ مرحلة التكعيبية وما بعدها، قد أرضيت هؤلاء السادة وهؤلاء النقاد بكل الغرائب والخزعبلات المتغيرة التي اعترت ذهني، وكلما زاد عدم إدراكهم لما أقوم به، زاد إعجابهم بي! واليوم كما تعلم، إنني مشهور، وثرى.. لكن، حينما أخلو إلى نفسي، ليست لدي الشجاعة لأعتبر نفسي فناناً بالمعنى الأصيل للكلمة، إنني مجرد مهرّج للجماهير، مهرج فَهَمَ عصره واستغله إلى أقصى درجة من الحماقة والتفاهة والتواطؤ.. إنه اعتراف مرير، بل هو أكثر مرارة وألماً مما يبدو، لكنه تعبير صادق”!
لا شك في أنه اعتراف مرير، لكن هل يعوض الإنسانية ما فقدته أو كل ما تم تدميره؟
وبعد هذه الاعترافات الدامغة، وغيرها كثير، لا يبقى إلا أن أطرح السؤال في بلداننا العربية، على كل الذين انساقوا في لعبة الفن الحديث، جهلاً أو عن عمد:
أمِن أملٍ في صحوة للضمائر بعد أن تكشفت الخبايا التدميرية الحقيقية لتلك اللعبة؟!
أمِن أملٍ لإعادة بناء ما تم هدمه من تراثنا وحضاراتنا وقيمنا وأخلاق شبابنا، بل إعادة بناء الفنان الإنسان الصادق، الصادق مع نفسه ومع الآخرين، لتتألق الحضارة الإنسانية من جديد؟!