لم يكن الحوار مع الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، سهلاً؛ فقد انتظرت قرابة الشهرين، لنظفر أخيراً بهذه الإجابات التي تناولت العديد من القضايا الداخلية والخارجية، ولا سيما المصاب الجلل في وفاة د. منصف بن سالم، وحديث الساعة عن الارهاب، ومسألة العدالة الانتقالية في تونس، والعلاقة مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ووضع الأحزاب والجماعات الإسلامية في خانة الإرهاب، بما في ذلك «النهضة» و«الإخوان المسلمون»، وبالطبع ماذا حققته الثورة لتونس، وسط حالة من التشكيك، إلى جانب الوضع في ليبيا.
* في 24 مارس، فقدت تونس والحركة الإسلامية وكل أحرار العالم، أحد الأعلام الأفذاذ، هو النابغة د. منصف بن سالم، الذي حرمت الدكتاتورية تونس من خدماته، وهو أمر لا يمكننا إغفاله في مستهل هذا الحوار.
– أعزي نفسي والشعب التونسي في مصابنا بفقدان أحد فرسان نضالها وأحد منارات علمها، ترجل الفارس عن صهوة النضال مبتسماً، مودعاً شعباً عاش مضحياً من أجله، ودفع في سبيل تحريره من الطغيان والدكتاتورية زهرة شبابه، وقدم تاج صحته رخيصاً في سبيله، نترحم عليه وندعو له بعد أن فارقنا ونحن نحقق جزءاً من حلم مشترك جمعنا منذ 30 عاماً، تونس الحرية والديمقراطية، تونس المشرقة بجمال أهلها، رحم الله د. المنصف بن سالم، وتغمده بجميل رحمته وعظيم عطائه، وفتح له أبواب جنته، وألحقه بالشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً.
خطر الإرهاب
* بعد جريمة الاعتداء على السياح في متحف «باردو»، إلى أي مدى يمكن للإرهاب أن يمثل تهديداً جدياً لتونس وهي تعيش مرحلة مهمة من تاريخها بعد الثورة؟
– هؤلاء الإرهابيون نظموا عملية من عمليات التوحش، انتهجها عقل مريض، وانتساب زائف للدين، والدين بريء من هذه الأعمال المتوحشة، فالإسلام رحمة، والوطنية تضامن، وهؤلاء ليسوا من الدين وليسوا من الوطنية في شيء، بل هم لحظة من لحظات التوحش.. هؤلاء الإرهابيون في قتال مع شعب مسلم، فشعب تونس صنع ثورة وانتصر فيها على إرهاب سلطة المخلوع، ولن يستسلم لعصابة سوء تريد أن تفرض إرادتها عليه، الشعب صنع دستوراً تحررياً ضمن فيه حق التعبير والعمل والكرامة لكل المواطنين، ووفر لكل المواطنين، لكل صاحب فكرة سواء كانت فكرته صحيحة أو خاطئة؛ أن يعبر عنها، وأن ينتظم في حزب أو جمعية بشكل قانوني، فماذا يريدون أكثر من هذا؟ لو حصل هذا العمل في دولة دكتاتورية قامعة لشعبها لقلنا: هذا رد فعل طائش على عنف الدولة، لكن أن يستخدم العنف المتوحش في مواجهة ثورة وحكومة أنتجتها الثورة، وفي مركز سيادة لهذه الثورة.
إن الإسلام براء من هذه الجماعات، هؤلاء لا يقرؤون القرآن، ولا يتبعونه، إنما يقرؤون إدارة التوحش ويتبعونها، فعلماء المسلمين قد صنعوا التاريخ للحفاظ على ذاكرة الشعوب، واستهداف المتاحف هو علامة سقوط وتوحش، وهؤلاء المجرمون جراد وآفة للحضارة، هؤلاء أرادوا ضرب وحدتنا الوطنية، ويجب أن نرد عليهم بوحدتنا، وأهم قيمة رسختها الثورة التونسية وهي قيمة التوافق لنمضي ببلادنا إلى التنمية والازدهار.
أهداف سياسية
* هناك من يحاول وضع كل الأحزاب والجماعات الإسلامية في سلة العنف والإرهاب، أو يتهم الأحزاب والجماعات الإسلامية بأنها تمثل غطاءً لتيارات العنف، ما ردكم على ذلك؟
– هناك أطراف تحاول الاستثمار في الدم باستغلال ما حصل لأغراض سياسية، وهذا يصب في مصلحة الإرهابيين؛ لأن مواجهة الإرهاب تتوجب وحدة وطنية وصف موحد، حركة النهضة أكثر المتضررين من الإرهاب، حكومتا حمادي الجبالي، وعلي العريض أسقطهما الإرهاب، وحكومة رئيس الوزراء علي العريض، هي التي صنفت حركة «أنصار الشريعة» كحركة إرهابية، ومن خلال نشاطنا الدعوي والفكري نؤكد أن ما تقوم به هذه المجموعات لا يمت للإسلام بأي صلة، ولا تجد في فكرنا أي دعوة للتفكير، نحن الأقدر على تجريد أفعال هذه المجموعات الإرهابية من أي أساس ديني، ونحن من خلال نشاطنا الفكري نجرد هذه الجماعات من كل ما تدعيه من أصول دينية.
إن التصدي للإرهاب والتحديات الكبرى التي تواجه تونس يتطلب مصالحة وطنية بين التيارات الأساسية في البلاد التي ظهرت منذ الحركة الوطنية، وهي: التيار الدستوري الذي ركز على فكرة الدولة، والتيار الإسلامي الذي ركز على فكرة الهوية والديمقراطية، والتيار اليساري الاجتماعي الذي ركز على العدالة الاجتماعية، وتونس تحتاج إلى مصالحة تجمع بين المحافظة على الدولة والهوية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
عدالة ومصالحة
* بخصوص المصالحة الوطنية، يدور حالياً جدل حول العدالة الانتقالية، ما رأيكم في ذلك؟
– نادينا منذ اجتماع 3 أغسطس 2013م الحاشد إلى المصالحة الوطنية بين جميع التونسيين؛ لنتمكن من التوجه إلى المستقبل يداً واحدة، ونحن ندعم دعوة الرئيس «الباجي قائد السبسي» للمصالحة الوطنية، نحن دعونا إلى المصالحة وقلنا: إن تونس تحتاج إلى تصالح بين القديم والجديد، ونطوي صفحة الثأر والانتقام، ونفتح صفحة التوافق، وهذا لا يعني أنه ليس هناك محاسبة، ولكن هناك فرقاً بين العدالة الانتقالية الفردية وعدالة انتقامية، مثلما حدث في العراق وما يتمثل في العزل السياسي.
* الوضع السياسي الذي تمخض عن الانتخابات، وزيادة الإضرابات والمطالب الاجتماعية، كيف تنظرون إليه؟ وهل هناك تغيير حقيقي حصل بعد الثورة؟
– لقد أنجزنا دستوراً عظيماً وهيئات انتخابية وانتخابات والحمد لله، ولكن توجد أشياء أخرى ناقصة، ومازال لدينا مئات الآلاف من العاطلين عن العمل، وملايين الشبان والشابات غير متزوجين، ومازلنا في البداية، المعهد الوطني للإحصاء أصدر دراسة تفيد بأن المواطن التونسي يعمل 20 دقيقة فقط في اليوم، فهل هذا الرقم سيوصل البلاد إلى بر الأمان؟ قطعاً لا، البعض يعمل 20 دقيقة ويطالب بأجر ثماني ساعات عمل ويطالب بالزيادات، ويقومون بالإضرابات للحصول على تلك الزيادات، حتى يوم الإضراب يطالبون فيه بعدم اقتطاعه من الراتب الشهري، هؤلاء لهم الحق في المطالبة بالزيادة في الأجور؛ لأن الأسعار مرتفعة فعلاً، لكن الزيادة يجب أن يقابلها العمل والإنتاج.
وبخصوص الثورة التونسية، العالم كله يتحدث على أنها نموذج واستثناء، والذين زاروا تونس في الفترة الأخيرة من رؤساء ووزراء يؤكدون بأن عدة بواخر أبحرت في بحر الحرية، إلا أن الباخرة التونسية قاومت الأمواج حتى وصلت إلى شاطئ السلامة، ونجاح الثورة التونسية له العديد من الشواهد، ومنها أننا نتحدث بكل حرية، ونجتمع ونتحرك وننشط بكل حرية، والثورات العربية التي تبدو أنها لم تنجح وستنجح بعون الله، لا يعيش أهلها مثل هذه الحرية، أو كما يقول المثل التونسي: «الواقع منها أكثر من القائم»؛ لذلك على التونسيين أن يحافظوا على ثورتهم وحريتهم.
* كيف استقبلت تونس الذكرى 59 لاستقلالها؟
– أحيا شعبنا هذه الذكرى المجيدة والجمهورية الثانية تبني أركانها، والانتقال الديمقراطي يثبت مساره، وخيار التوافق يتخطى مصاعبه، ومكاسب الحرية والديمقراطية تترسخ في الأذهان، ويشهد على ذلك كما سلف دستور توافقي عظيم، وانتخابات حرة متواترة، وتداول المتنافسين على السلطة بسلمية عز نظيرها.. إن حماية استقلال تونس تقتضي مواجهة التحديات والأخطار الماثلة أمامنا بإرادة جماعية؛ شعباً، ودولة، وأحزاباً، ومجتمعاً مدنياً، وتصميماً على المضي قدماً في استكمال بنائنا الديمقراطي وتقوية وحدتنا الوطنية، وتحقيق تنميتنا، وبناء مستقبل شعبنا ومجده.
النهضة والإخوان
* أثيرت في بعض المؤتمرات وبعض وسائل الإعلام، أحاديث عن علاقة حركة النهضة بالإخوان المسلمين، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ودعوات لفك الارتباط، هل من توضيح بهذا الشأن؟
– أنا عضو في الاتحاد العام لعلماء المسلمين، وهو أكبر تجمع للعلماء في العالم، وهو ضد الإرهاب، إلا إذا صدقوا «عبدالفتاح السيسي»، ونحن لا نصدقه؛ لأنه لم يأتِ إلى السلطة بطريقة ديمقراطية وإنما بالانقلاب على الشرعية، وأنا أتشرف بالانتماء إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو سد في وجه الإرهاب، وأكثر من كتب ضد الإرهاب هم أعضاؤه، والشيخ يوسف القرضاوي هو أول من جرد الإرهاب من الصفة الإسلامية، وما قيل عن أنني قلت عن بعض المجموعات بأنهم أبنائي مجرد اتهامات من بعض من يستثمرون في الإرهاب عوضاً عن أن يجمعوا معنا التونسيين على التصدي له وهي دعاية فاشلة ضدنا.
وحكومة النهضة هي التي منعت جماعات العنف من عقد مؤتمرهم بالقيروان، بينما كانوا قد عقدوا مؤتمرهم السابق في ظل حكومة أخرى، ولسنا نحن من أطلق سراحهم من السجون، وإن كان العفو العام محل اتفاق من الجميع دون استثناء، ونحن مع تطبيق القانون، ومن يخطئ يدفع الثمن، ونحن مع كل الإجراءات الثقافية والأمنية والقضائية والاجتماعية والتنموية لمحاربة هذه الآفة التي تريد أن تحول تونس إلى دولة فاشلة.
وبخصوص مصر، فقد سئلت عما إذا كان هناك دور لي لإجراء مصالحة في مصر بين «السيسي» والإخوان المسلمين، وقد أجبت بأنه حتى الآن لم يحصل هذا.
الموقف من ليبيا
* كيف ترون الموقف التونسي الرسمي حيال ما يجري في ليبيا؟
– سياسة الانحياز لطرف واحد من أطراف الصراع في ليبيا ليس من مصلحة تونس التي يجب أن تقف على مسافة واحدة من الطرفين؛ لأن ليبيا تهمنا كبلد موحد بكل أحزابها وجهاتها وقبائلها ومكوناتها المتعددة، بيننا وبين ليبيا تداخل مجتمعي، وأرضٍ ولا يمكن أن تكون تونس دولة نامية ناجحة دون أن تكون ليبيا مستقرة، يسودها الوئام والسلام والرخاء، وقد تمكنت الحكومة التونسية الحالية من إعادة قدر من التوازن الذي كان مفقوداً في حكومة «التكنوقراط» قبل الانتخابات، وجرى تعيين قنصلين في بنغازي وطرابلس، فلا يمكن الخلط بين الثوار الذين حرروا ليبيا من الاستبداد والإرهاب؛ لأن «فجر ليبيا» هي التي ساعدت تونس على التخلص ممن كانوا يهددون أمنها، وأعني القاتل المجرم «الرويسي».
هل ستبقون على رأس حركة النهضة بعد مؤتمرها القادم صيف هذا العام؟
– هذا الأمر يقرره المؤتمر.