الداعية بحاجة دائمة إلى مصدر يستمد منه زادا روحيا وفكريا وحركيا؛ ذلك أن حال الداعية حال مصباح الزيت، الذي يضيء فتيله للناس مستمدا زاد استمراره ومقاومته للنار دون أن يحترق من الزيت الموجود في الصباح، وكلما قل الزيت أو نفد كان الفتيل عرضة للاحتراق بالنار.
وهكذا الداعية الذي يضيء للناس ويأخذ بأيديهم من ظلمات الجهل والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة، معتمدا في ذلك على ما لديه من رصيد إيماني وثقافي ومهاري، وكلما حرص على تجديد مصادر ذلك الرصيد والمدد كان أكثر توهجا ونشاطا وحيوية، وهو ما ينعكس على تأثيره في الناس.
لذلك على الداعية أن يحرص على زاده الإيماني والروحي من قيام وتلاوة قرآن وذكر، وكذلك زاده الثقافي والفكري، والتجديد في مهاراته الحركية التي تجعل تواصله مع الناس بناء وفعالا..
الرسول خير قدوة دعوية
تُعد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خير زاد للداعية في حياته؛ فالرسول سيد الدعاة وخير مبلغ عن ربه، وحياته صلى الله عليه وسلم حافلة بالدروس والعبر التي لا يسع الداعية الجهل به.
ومن مظاهر الزاد التي يمكن للداعية أن يخرج بها من السيرة النبوية ما يلي:
أولا– الاهتمام بالزاد الإيماني والتعبدي: فالرسول صلى الله عليه وسلم هيأه الله تعالى تهيئة روحية خاصة قبل نزول الوحي عليه، من خلال اختلائه في غار حراء وتحنثه لربه، ثم بعد نزول الوحي نزل عليه التوجيه الإلهي {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل: 1-8)؛ فجمع له بين الأمر بقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر والتبتل…، وها هو صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه حتى أشفقت عليه السيدة عائشة -رضي الله عنها- فقالت: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا” (رواه مسلم).
فلا تحرم نفسك أخي الداعية من أورادك الإيمانية حتى يفتح الله لها قلوب العباد؛ فللطاعة نور في القلب وضياء في الوجه ومحبة في قلوب الخلق؛ فاستفتح قلوب الخلق بالطاعة والقرب من الله.
ثانيا– الثقة في نصر الله: من المعاني المهمة التي يستمدها الداعية من سيرته صلى الله عليه وسلم الثقة في موعود الله تعالى وفي نصره لأوليائه إن هم تحققوا بأسباب النصر وكانوا أهلا له؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يزرع الأمل والثقة في قلوب الدعاة فيقول: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر” (أخرجه أحمد).
فلا تيأس أخي واحذر الإحباط أو الفتور إن وجدت صدودا أو إعراضا من الخلق؛ فأنت متعبد لله تعالى ببذل الأسباب والوسع، والاجتهاد في التبليغ، وعلى الله تعالى الأجر وهداية عباده، وهو تعالى ناصر دينه ومبلغ دعوته.
ثالثا– إدراك طبيعة الطريق بصورة صحيحة: من خلال مطالعة سيرته العطرة وما لاقاه من عنت وأذى من قومه يطمئن الداعية على صحة الطريق الذي يسير فيه، ويدرك أنه على طريق الأنبياء والمرسلين ومنهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي أخبره ربه موضحا له طبيعة هذا الطريق: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام: 34، 35).
رابعا– اكتساب أساليب دعوية: لا شك أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالأساليب الدعوية المبتكرة والمتميزة التي كان لها أثرها البالغ في جذب الناس لدين الله تعالى، ومنها أسلوب الحوار والنقاش العقلي والمنطقي الذي اتبعه صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، ومنها أسلوب إلقاء السؤال لتحفيز الذهن كما ورد في حديث المفلس؛ حيث بدأه بسؤال أصحابه: “أتدرون من المفلس؟…”، ومنها أسلوب الموعظة التي كانت تذرف منها العيون وتوجل القلوب… إلى آخر هذه الوسائل والأساليب النبوية في الدعوة إلى الله تعالى التي يكتسبها الداعية ويفيدها من مدارسة سيرته العطرة، وسنته المطهرة.
خامسا– اكتساب فقه الأولويات الدعوية ومراعاة حال المدعوين: من الأمور المهمة للداعية ضبط ميزان الأولويات لديه؛ بحيث لا يقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم؛ فيهتم مثلا بالنوافل ويتساهل في الفرائض، أو يهتم بالمستحبات والمباحات على حساب النوافل، أو يتشدد في النهي عن المكروهات في الوقت الذي تنتهك فيه المحرمات.
والسيرة النبوية حافلة بالأحداث التي تدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم ومراعاته لفقه الأولويات؛ فمن ذلك قوله لمعاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى أهل اليمن؛ إذ قال له: “إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموالهم” (متفق عليه عن ابن عباس)؛ فهذا الحديث نموذج واضح على ترتيب الأولويات التي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم التأكيد عليها عند معاذ قبل إرساله لليمن للدعوة والتبليغ.
سادسا– السيرة زاد معرفي في الدعوة: كما أن السيرة النبوية تمثل زادا إيمانيا وحركيا ووجدانيا للداعية فإنها أيضا تعد بكل ما تحويه من أحداث وسير، ودروس وعبر زادا معرفيا يستفيد منه في خطبه ودروسه، وفي استهلاله وأحاديثه، وفي استصحاب بعض أحداثها لتوصيل مفاهيم وقيم وآداب للمتلقي، سواء كان ذلك في الدعوة الجماعية من خلال الخطابة والدروس العامة، أم في الدعوة الفردية من خلال التواصل المباشر..
وهكذا أخي الداعية كما تحافظ على وردك من القرآن الكريم؛ فلا تحرم نفسك من ورد من السيرة النبوية المطهرة، مدارسة ومعايشة وتخيلا لأحواله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حال الأنبياء والرسل السابقين عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم، كما نزلت في القرآن الكريم، وكما أخبر به صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة عنهم، متحريا في ذلك الأحاديث الصحيحة.