“يتناول هذا الكتاب ما حدث لفن المجتمع البروجوازي وثقافته بعد أن تلاشى ذلك المجتمع إلى غير رجعة مع الجيل الذي تلا عام 1914م”.. بهذه الكلمات يقدم الفيلسوف البريطاني إريك هوبزباوم كتابه “أزمنة متصدعة.. الثقافة والمجتمع في القرن العشرين” الذي يعتبر آخر إصداراته قبل وفاته عام 2012م.
الكتاب الصادر عن قسم “ترجمان” بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تولت ترجمته الباحثة المصرية سهام عبدالسلام، يعتبر هذا الكتاب تتويجاً لرباعية المؤلف الشهيرة التي أصدرها قبل ذلك، والتي تناول فيها تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر الذي اعتبره أطول القرون، وكانت عناوينها كالتالي: عصر الثورة: أوروبا (1789 – 1848م)، وعصر رأس المال (1848 -1875م) ، وعصر الإمبراطورية (1875 – 1914م)، ثم أضاف إليها لاحقًا عصر التطرّفات.
يركز المؤلف في كتابه “أزمنة متصدعة” على التاريخ الثقافي لأوروبا، من خلال تاريخ الفنون (الثقافة الرفيعة) التي يرى أنها في مأزق حرج بعدما فرضت عليها الثورة التكنلوجية الاعتماد عليها بدل الاعتماد على الإنسان المبدع، ويحلل أزمة الإبداع وانهياره أمام عصر التكنلوجيا، مؤكداً أن كلمة إبداع حين ترد في عروض التوظيف بالمعنى الجديد للكلمة، نادراً ما تعني حقاً أكثر من عمل ذي طبيعة ليست روتينية بالكامل (ص 74)، ويضرب مثالاً بالموسيقى التي يرى أنه لا خوف عليها من الانهيار ولا التلاشي في القرن الحادي والعشرين، بل إن العصر عصر الموسيقى بامتياز، ولكن أي موسيقى؟!
يقرر هوبزباوم أن موسيقى القرن الحادي والعشرين ستبدو شديدة الاختلاف لأذن المستمع بالمقارنة بموسيقى القرن العشرين، فالإلكترونيات أدخلت عليها بالفعل ثورة رئيسة؛ ما يعني أنها صارت مستقلة إلى حد بعيد عن الموهبة الإبداعية والمهارات التقنية للفنان الفرد، موسيقى القرن الحادي والعشرين ستنتج أساساً، وتصل إلى آذاننا، من دون الكثير من التدخل البشري (ص69).
يطرح المؤلف موضوعاً آخر غاية في الأهمية؛ وهو فقدان الفن في العصر الحديث لدوره الروحي، إن الفن كان جزءاً من الدين أو على الأقل كان رافداً من روافد تمهيد الروح لاستقباله والاحتفاء به، كان الفن – كما كان الدين يوماً ما – شيئاً أرفع من غيره، أو خطوة نحو شيء أرفع ألا وهو الثقافة، أدى الاستمتاع بالفن إلى تحسن روحاني وكان نوعاً من الأنشطة التي يتفانى فيها المرء، سواء في الحياة الخاصة مثل القراءة أو في الحياة العامة، في المسرح.
المشكل الجديد أن الفن لم يعد متميزاً عن الحياة اليومية وعن ما هو تسلية، وذلك منذ أن رقي الترفيه إلى مرتبة الثقافة، غياب الفارق بين الثقافة والحياة، وبين عبادة الأشياء واستهلاكها، بين الجسد والروح، هذا أدى – في نظر الكاتب – إلى أن الثقافة بالمعنى البورجوازي النقدي التقويمي للكلمة خلت السبيل للثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الوصفي الخالص لها.
أحد أوجه الأزمة في ظل طغيان الثقافة الاستهلاكية – حسب الكاتب – هو أنّ الموسيقى الكلاسيكية الغربية صارت تعتمد على مخزون ميت منذ الحرب العالمية الأولى، فقد انتاب الركود قوالبها الموسيقية، ويختم هوبزباوم هذا القسم بنظرة على علاقة الثقافة والفنون بالسياسة والسوق في الوقت الحاضر، ويراها علاقة يحكمها ثلاثة لاعبين: السياسة، والسوق، والإلزام الأخلاقي.
في فصل تحت عنوان “هل كان قرناً من التآزر الثقافي” يناقش المؤلف موضوعاً مهماً وهو العولمة، ويقدم فهماً متقدماً لمفهومها نافياً كونها سيطرة كلية على الثقافات ونفيها لصالح ثقافة واحدة هي الثقافة الأمريكية، بل يقرر أن العولمة لا تزيح ببساطة الثقافات الإقليمية والقومية وغيرها من الثقافات، بل تمتزج بها وفق خليط معين (ص 83)، قد تكون سيطرة النموذج الوحيد صحيحة في المجالات التي تسيطر عليها التكنولوجيا مثل المطارات وتصميمات المكاتب الحديثة، لكنها حين تمتد إلى ما له علاقة بالثقافة تصطدم بصلابة الترابط التقليدي.
ويقدم أمثلة يعضد بها فكرته هذه، أول هذه الأمثلة هو مجتمع “الأوتافالينيوس”؛ وهو مجتمع من الهنود يعيش في أحد أركان الإكوادور، وهو مجتمع منغرس في الاقتصاد العالمي الحديث بفعل عمله في النسيج وتجارة المنسوجات، لم يتأمرك هؤلاء الهنود بشكل خالص بل على العكس صبغوا تأثير الولايات المتحدة بصبغتهم، يظهر ذلك في أن مراهقيهم يرتدون سراويل الجينز وملابس التدريب التي تحمل ماركة “ريبوك” مثل غيرهم من أقرانهم من أهل كاليفورنيا، لكنهم يرتدون في الوقت نفسه قبعات من طراز قبعات أسلافهم، ويصففون أشعارهم بطراز الضفائر الطويلة التقليدي نفسه.
يستشهد المؤلف في تحليله لتداخل وتعدد الثقافات وامتزاجها بالمطبخ الذي يرى أنه يمضي للاصطباغ بالصبغة العالمية في مختلف البلدان، ويقول المؤلف في طرافة عميقة: أنا بوصفي رجلاً إنجليزياً أفكر في جنوب آسيا، فمنذ انتهاء الإمبراطورية البريطانية، هزمت الهند إنجلترا من منظور المطبخ عن طريق الهجرة من جنوب آسيا، لقد غزا المطبخ الهندي بريطانيا لدرجة أن السمك أصبح يؤكل من باب الترف فقط، مفسحاً المجال للوجبات الهندية مثل السمبوسك ودجاج تيكا بالماسالا وفيندالو.. إلخ.
لكن هذا التعدد الثقافي والتداخل الجغرافي بفعل التكنولوجيا طرح إشكالاً آخر تجاوز تصدع الثقافة إلى تصدع الإنسان الذي أصبح موزعاً بين أكثر من عالم، ويمثل المهاجرون اليوم نموذج هذا التصدع الحاد، فهم يعيشون في ثلاثة عوالم؛ عالمهم الخاص بهم، وعالم بلد المهجر، والعالم الكوني الذي صار ملكية مشتركة للبشرية بفضل التكنولوجيا والمجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الحديث ومجتمع الوسائط (ص 88).
هي إذن أزمنة متصدعة، صنعت لها التكنولوجيا الثائرة والمتطورة باستمرار قطيعةً متزايدة مع الأمس، حتى ولو كان قريباً؛ لأن سرعة التطورات جعلت عامل الزمن يتقلص جداً لصالح عالم التقنية، هذا كله قاد إلى تصدع الثقافة ومن ثم تصدع الإنسان ككيان روحي وعقلي وثقافي واجتماعي، فإلى أين سترمي التكنولوجيا قطار البشرية الحائرة؟
المصدر: “إسلام أون لاين”.