التربية وحدة متكاملة، تجمع بين المُربي والطفل من خلال العناصر التربوية المناسبة. بأسلوب يتناسب مع الطفل من حيث السن، والظروف المحيطة، والقدوة الصالحة. وأي فصل بين هذه العناصر يُحدث خللاً في مسار العملية التربوية. وأشد هذه المسارات خطراً على الطفل من الناحية النفسية والسلوكية هو أن تُصبح التربية متناقضة المبادئ، بين ما يتربى عليه الطفل، وما يُطلب منه، أو من خلال التناقض بين العملية التربوية التي يقوم بها المربي، وبين سلوكه كقدوة للطفل. وهذا ما يُعرف بالفصام التربوي أو الازدواجية التربوية.
ويظهر الفصام التربوي من خلال عدة أساليب، يستخدمها المُربي غالباً ما تكون دون وعي منه، ودون إدراك لمخاطرها على الطفل، وعلى العملية التربوية بشكل عام. ومن أهم هذه الأساليب وأكثرها انتشاراً:
التناقض بين ما يغرسه المُربي من قيم أخلاقية، وما يقوم به كقدوة سلوكية حية أمام الطفل. فتارة يُعاقبه على كذبه، وفي الوقت نفسه يكذب أمامه، وقد يأمره بالكذب في مواقف أخرى، يعتقد أنها تصب في مصلحته أو مصلحة الأسرة؛ فيطلب منه مثلاً أن يُخبر من يسأل عنه: أنه لم يأتِ بعد من عمله؛ بحجة أنه يريد أن يجلس مع أسرته وقتا أطول. وكذلك قد يعده ببعض الوعود ويتجاهلها. وفي الوقت نفسه يُحاسب طفله على أي وعد قطعه، سواء خالفه بالترك، كوعده بعدم إهمال واجبه مرة أخرى، ثم يعود لإهمالها. أو وعده لوالده بانضباطه بسلوك معين كأن يعد بأنه سيحافظ على غرفته مرتبة، لكن يعود أيضاً لإهمالها. ويظهر هذا التناقض جلياً في سلوك المُربي القدوة عندما يأمر طفله مراراً عند إزعاجه له صارخاً في وجهه بأعلى صوته قائلاً له: لا ترفع صوتك، بل ويعاقبه على رفع صوته.
وكذلك يظهر الفصام في التذبذب فيما نغرسه من قيم، وما نطلبه من أبنائنا، ولو كان بطريقة إيحائية غير صريحة. فعادة ما يقول الوالدان لأبنائهم: إن الغش محرم، ويضربون الأمثلة لذلك بالأدلة المحرمة له. لكنهم بمطالبتهم لأبنائهم بجمع الدرجات بأي وسيلة كانت، فالمهم الوصول للتفوق الدراسي دون إدراك لقدراتهم وإمكاناتهم، بل بمقارنتهم بمن وصل للهدف واجتاز الامتحان وتفوق. ففي ذلك دفع مبطن للأبناء نحو مناقضة القيم بالسلوك؛ استجابة لإرضاء الوالدين.
وقد يظهر التناقض بين السلوك نفسه، باختلاف المكان أو الأفراد فنتعامل مع السلوك على أنه ثوب يلبسه الابن في مكان، ويبدله في مكان آخر؛ لعدم مناسبته للمكان. فلا نسمح لأبنائنا بضرب إخوتهم ونعاقبهم إن فعلوا ذلك. بينما نعاقبهم أيضاً إن لم يكونوا أقوياء خارج البيت؛ كي لا يسمحوا لمن يضربهم بأن يفر دون أن يأخذوا حقهم منه. وهنا نُشكل الصيغة التربوية بأسلوب أو بعبارة تجمع بين التناقض والخلل السلوكي الفكري (خذ حقك ممن ضربك -خارج نطاق الأسرة – ولا تكن جباناً. وفي الوقت نفسه كن متسامحاً لطيفاً مع إخوتك – داخل الأسرة – وإن أساؤوا إليك؛ لأن القوة بالعقل والحكمة لا باليد). وكأن العقل والحكمة تُستخدمان أسرياً وخارج الأسرة يستلزم إبدالهما باليد والشدة!
ويمكن تجسيد الفصام الأخطر على الأبناء: بأنه التذبذب في الأسلوب التربوي بين الزوجين، أحدهما يعطي، والآخر يمنع. أحدهما يعاقب، والآخر يبتسم ويقول بكل برود: لا تهتم أو يحتضنه في محاولة لإثبات أسلوبه التربوي على حساب الطرف الآخر لعدم قناعته بجدواه. ومنه أن يغرس أحد الوالدين الطمأنينة في نفس الطفل بأن يُعلمه ألا شيء يُخيف. وفي الوقت نفسه تستخدم الأم مثلاً أسلوب الإخافة؛ ليمتنع الطفل من دخول الغرفة وإثارة الفوضى فيها. أو كأسلوب يجبره على الهدوء وترك الشغب.
كما أن اعتماد مبدأ التربية المتناقض وغير السوي، فضلاً عن تنازع السيطرة التربوية من قبل الوالدين للحصول على أسلوب تربوي مستقل ومسيطر لأحدهما، كأن يسعى لتحقيق أهدافه بمعزل تماماً عن أسلوب التربية للآخر، فيكون للأم أسلوبها التربوي الخاص، وللأب أسلوبه الذي يتناقض مع أسلوب الأم في كثير من القواعد، فكل ذلك يُبقى الأبناء بينهما بين مد وجزر؛ مما يدفعهم للتنحي عن كلا الطرفين؛ لتجنب الصدام مع أحدهما؛ وتفادياً للمزيد من المشكلات.
بالإضافة إلى أن هذا التنازع بين الوالدين، يضطرهم لاستخدام التناقض في السلوك والقيم؛ لإرضاء كلا الوالدين المتنازعين، فيصدق عند أحدهما ويكذب عند الآخر. وقد يتحدث ويشتكي من أحدهما للآخر كسباً لوده. وُيظهر امتثاله للسلوك أمام أحدهما. ويتركه في غيابه. مع إظهاره للمحبة والطاعة لوالديه لكن بطريقة الظهور لكل على حدا واسترضاءه بما يطلب أمامه، واللجوء للطرف الآخر في غيابه أو اللجوء لمن يجد مصلحة أكثر لديه. ولذلك كله أثره السلبي على النمو النفسي والتربوي للطفل.
حتى بدت الحياة الأسرية لكثير من البيوت مع أبنائهم، أشبه ما تكون تحت مبدأ: افعل هنا، ولا تفعل هناك. خذ من أقوالي، وغض النظر عن سلوكياتي. سأحاسبك على كل هفوة، وعليك التغاضي عن كل زلاتي. فضلاً عن استخدامهم كأدوات تُرجح أسلوب أحد الأبوين وتدعمه على حساب الآخر. فأي فصام يحاصر أبناءنا هو أشد عليهم من هذا الفصام.