رأيت فيما يرى النائم أهوالا يصعب ذكرها، حاولت جاهدا تناسيها، تأبت إلا أن تترك بعض آثارها، تلازمني في صحوى، تبقى شاخصة أمامي، تمثل كائنات مفزعة، شياطين تجوب الحجرة، تتراقص على الحائط كلما زفرت أنفاسها اتسعت شقوقه، دوي الريح يشعلها غضبا، تمايل الأشجار في عنف يحدثني أنها تحيط بي، زاغ بصري أشتاتا.
إنه الشيطان يتخفى وراء تفاصيل الأشياء التي لا نلتفت إليها، سكن داخل أروقة المنسي من حياتي، تسربل في ذواتي كلما تغافلت عن ترتيب أشيائي المبعثرة بلا ضابط، هذا ما تبينته حين تصفحت أرفف مكتبتي، بدا لي أن العالم سيكون أكثر سلاما لو تخلص من صاحب هذه الأوراق الصفراء!
لن ينقص إلا رقما واحدا، لكن النساء سيأتين بدلا مني بآخرين، ربما لن يشبهني واحد من هؤلاء الذين سيقدمون من خلال نزقة أو هذرة، فقط هذا بلاء حتمي لكنه جميل حيث تتصدى الإناث للذكور، يضعن المساحيق التي تسرق عقول الرجال، إنها تسكن هنا منذ أعوام، صامتة كأنها هربت من صخب الحياة لتقبع معي في المغارة الحجرية، يا له من عالم يعاني من الوحشة!
هببت من نومي مذعورا؛ لا صبر على هذا الرعب، يكفي ما تفعله بنا أداة السطوة المتجبرة، أوقدت المصباح، ما تزال الخيالات تتراقص، فركت عيني، لمست متعمدا مقبض الباب؛ لم تبرح تلك الهلاوس بعد ذلك المربع الذي أتواجد فيه.
صورة جدي المعلقة خلفي تصدر أصواتا متقطعة، تناهى إلى أذني بعض وصيته؛ إنه ترك لنا كومة منها في خزانة الأشياء، سامح الله زوجة أخي لا أدري لم فعلت بالبيت كل هذا؟
تخلصت من كل ما تركه جدى وثنت بأشياء أمي، لم تراع أن الماضى بالنسبة إلي ثروة لا تقدر بثمن، جاءت إلينا في ليلة شاتية مظلمة، وضح في صبيحة زفافها أن وجهها أشبه بقناع من البلاستيك.
تسللت إلى حجرات البيت، من اليوم الأول أحدثت تغييرا في نظامه، حاصرت أمي في ركن قصي، أحضرت كلبا أبيض، أسكنته الشرفة، تندر علينا الجيران؛ صرنا نسكن بيت الكلب الأبيض، هكذا كان أصحابي يسخرون.
في ظلمة الليل قصت ريش الديك، تمادت في فعلها، في تشف عجيب ذبحته ومن يومها غادرت الملائكة بيتنا، صوت المذياع يصدح بأغان مثيرة.
ظلت أمى تئن في صمت، حاولت أن أخفف عنها، كنت صغيرا، ولدت بعين واحدة، لا أستطيع إطعام نفسي، سامح الله أخي؛ ليته طلب منها أن تحسن معاملتنا، أوحت إليه أننا عالة عليه؛ جدي ترك لنا هذا البيت؛ إنه يحتل واجهة الشارع في وسط العاصمة.
أوصى جدي بنصفه لي؛ عرفت هذا من أمي قبل أن ترحل حيث يسكن جدي القبو الحجري بالجبل الأحمر.
كتب في ورقة مغلفة في إطار زجاجي؛ أن توضع صورته في وسط البيت، شرط أن يخرج من البيت الكلب الأبيض.
هكذا الحروف لا نفع وراءها، لقد صارت هزيلة كأنها يئست من المحيض، البلاهة أن تقف والعالم يمور من حولك فالأمواج جبال عاتية، والأحلام سراب بقيعة يحسبه الممسوس شفاء من أدوائه، يا ليت له ذات ضفيرة تعاند الريح، انتبهت لصورتي في المرآة؛ لقد جرى عمري هاربا، أنا الذي عاش في الظل، هل ثمة رجاء أن يبدأ صعود السلم من البداية، لقد اقتربت رحلتي من نهايتها، البعض يراني زائدة دودية، والآخرون تيقنوا بأنني على الأعراف، كل الصباحات تغادرني ولا رجاء لي غير ثدي أمى المصاب كما الزمن بالعجز، لقد تبدلت الأشياء فلست غير خيال يقف على الأطلال، إنهم يدفعون بي ناحية الجنون.
كل ما تبقى لي من هذه الذكريات نتوءات شاخصة تقف قبالتي، سأعاود القدوم من الجهة اليمنى لذلك البيت الرابض عند متاهة لا حد لها.
الآن صرت وحيدا، بدأت الهلاوس تلازمني، تسلط علي الكلب اﻷسود؛ هكذا يأتيني في منامي، وجدت أوراقا بها أشكال هندسية، نجمة سداسية خطان أزرقان، ينبح الكلب ساعة أذان الفجر.
توسلت إليها أن تتركني أعلق صورة أمي على الحائط جوار جدي؛ غافلتها؛ أمسكت بسكين المطبخ، قطعت حبله؛ في غير توقع أخذ يعدو خارجا، جرت وراءه، أسرعت بغلق الباب، علقت صورة أمي؛ ﻷول مرة أشعر بأن البيت نصفه لي!