“إن أتباع محمد أوفر أدباً في كلامهم عن المسيح”.. ( برناردشو)
ولد المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من غير أب! وهو حدث عجيب! ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خلق من غير أب ومن غير أم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1)، وفي هذه الآية نقرأ حُجة دامغة شبهت الغريب بما هو أغرب منه، فلقد شاءت حكمة الله أن تشهد الإنسانية هذه الولادة العجيبة كي تتلفت من خلالها إلى قدرة الله، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى – خلق آدم – التي لم يشهدها إنسان، وثمة حكمة ثانية، وهي إعادة التوازن الروحي لبني إسرائيل الذين غرقوا في المادية، فكانت ولادة المسيح الخارقة إعلاناً لعالم الروح.
ولما كان المسيح عليه السلام جنيناً صغيراً في بطن أمه الطاهرة، كان الله يرعاه، وكان يغذوه من دمها الطاهر الزكي، وطبيعي أن السماوات والأرض كانت مخلوقة بقدرة الله وحده لما كان المسيح يتخلّق في رحم العذراء البتول {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2).
وقد تفرّد القرآن الكريم بذكر قصة ولادة المسيح بتفصيل مبين، وبأسلوب معجز جميل وجليل، يقول الله تعالى في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(3).
وإن دارس القرآن يدرك أن القرآن لم يذكر قصة مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان مولداً طبيعياً، وهذا من أظهر الأدلة على أن القرآن ليس من عنده، وإلا لاهتم بمولده أكثر من اهتمامه بمولد عيسى بمقتضى الطبيعة البشرية.
والعجيبة الثانية التي ذكرتها الآيات الكريمة أن المسيح عليه السلام قد كلم الناس في المهد ليُبرِّئ ساحة أمه الطاهرة التي قال القرآن فيها: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}(4).
وقد أكد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رفعة السيدة مريم فقال: “خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة”(5). والعجيب حقاً أن يتكرر الذكر العطر للسيدة مريم كثيراً في القرآن من دون أن يذكر اسم والدة محمد صلى الله عليه وسلم! والسؤال الذي يطرح نفسه: لو كان القرآن من عند محمد فهل كان سيَفصلَه عن ذاته فيغفل ذكر أمه ثم يثني على أم رسول آخر؟! ألا تدل هذه الظاهرة على أن القرآن الكريم قد صدر عن أفق أعلى من ذات النبي محمد؟.
هذه الصورة الرائعة في القرآن للسيدة مريم على خلاف الصورة اليهودية التي رسمها يهود، إذ طعنوا في عفتها وافتروا عليها بهتاناً عظيماً، ومن المفارقات العجيبة التي ألمح إليها الدكتور شوقي أبو خليل (6) أن يعمد القائمون على طباعة الأناجيل المتداولة إلى طباعة العهد القديم كتاب اليهود المقدس ونشره مرفقاً مع العهد الجديد! وكان الأولى بهم أن يطبعوا وينشروا القرآن الكريم.
ونتساءل: هل يمكن أن يكون الصمت خطيئة؟! نعم إذا كان هذا الصمت يحجب الإيمان والحقيقة، ولكن الصمت مهما طال فستمزقه كلمة حق حين تُقال.
شب المسيح في كنف أمه التي كانت تحوطه وترعاه، فبادلها حباً بحب وبرٍّ ووفاء وقد سجل القرآن هذا {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا}(7).
على حين نقرأ في إنجيل يوحـنــا (2/3): “ولما فرغت الخمر قالـت أم يسوع لــه: ليس لهم خمر، قال لها يسوع: مالي ولك يا امرأة ”!
المسيح إنسان ورسول
أكدت الأناجيل المتداولة بشرية المسيح عليه السلام وأنه “ابن الإنسان” في عشرات المواضع. ففي إنجيل متى (8/20) ” لطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه”، وفي إنجيل يوحنا (8/40) ” أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله”.
ولقد كان المسيح عليه السلام كغيره، يجوع فيأكل الطعام {مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}(8).
وفي إنجيل متى (21/18) “وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع”.
هذا الإنسان العظيم كان ذا شخصية جذابة وذا خلق كريم، اصطفاه الله ليكون رسولاً إلى بني إسرائيل يحكمهم بشريعة التوراة وهداية الإنجيل فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده، وإلى إخلاص العبادة له، وذلك بعد أن انحرف بنو إسرائيل فمنهم من عبد العجل، ومنهم من قال: عزير ابن الله، ومنهم من قتل الأنبياء أو افترى عليهم عظيم القول، ورسالة المسيح عليه السلام كانت خاصة ببني إسرائيل يقول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ، وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}(9)، وفي إنجيل متى ورد: “لم أُرسَل إلا إلى خراف بني إســرائيل الضالــة”(10).
وقد ذُكرت مهمة المســيح الرسـاليـة في القــرآن الكريم {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْــهُ}(11)، كما ذكرت هذه المهمة في الأناجيل، ففي إنجيل يوحنا ( 17/3 ) “أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”، وفي إنجيل لوقا (24/19) “يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً”.
وكسائر الأنبياء الكرام فقد أيد الله رسوله المسيح بمعجزات وآيات، من ذلك أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
دعوة المسيح هي توحيد الله
طاف المسيح عليه السلام في البلاد سائحاً يدعو العباد إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله وحده، وراح يدعو بني إسرائيل بآيات الإنجيل، وبمواعظ تسحر الألباب، لقد كان عليه السلام كالحكمة الطائفة، وكأنفاس الحياة، يزرع الخير ويغرس شجرة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}(12)..{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}(13).
وفي إنجيل لوقا ( 4/8 ) “إنه مكتوبٌ للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد”.
وفي مُرقس (2/7): “من يَقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟!”، وفيه (12/9): “الربُّ إلهُنا ربٌ واحد”.
وقد سبق أن قرأنا هذه الكلمة: “أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته” والتي يمكن أن نقرأها أيضاً هكذا: “لا إله إلا الله، والمسيح رسول الله”..
أما القديس (آريوس ) فيقول: “بما أن الرب واحد وغير مولود كالمسيح فهو الإله الوحيد”، ويقول المستشرق الشهير غوستاف لوبون: “لا شيء يدل على أن الناس عدّوا يسوع إلهاً في القرن الأول من النصرانية”(14)، أما شاعر الألمان الأكبر يوهان غوته فيقول: “يسوع كان طاهر الشعور ولم يؤمن إلا بالله الواحد الأحد، ومن جعل منه إلهاً فقد أساء إليه، وهكذا فإن الحق هو ما نادى به محمد”(15).
ويتساءل غوته متعجباً: “تريدين أن تُقدمي إلي هذه الصورة البائسة للمصلوب على الخشب على أنه الله؟!(16).. إذا كان للرب كفواً أحدٌ أيكون بعدها رباً؟” (17)، وفي المؤتمر الذي عقده أساقفة الأنجليكان في إنجلترا عام 1984 وحضره (31) أسقفاً قرر تسعة عشر منهم أنه يكفي اعتبار المسيح رسولاً عظيماً فحسب(18).
بشارة المسيح ببعثة محمد عليهما السلام
أنزل الله تعالى ( الإنجيل ) على المسيح {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (19)، وكلمة (الإنجيل) تعني باليونانية ( الخبر الطيب ) أو ( البشارة الطيبة ) والذي يبدو أنه قد سمي بهذا الاسم لأنه كان آخر كتاب سماوي بشَّر باقتراب موعد نزول الكتاب الإلهي الخالد ( القرآن الكريم )، ولأنه بشَّر أيضاً بقرب بعثة الرسول الخاتم محمد، بدليل قول المسيح عليه السلام {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(20).
أما القرآن فقد اشتُقّ اسمه من ( القراءة ) بمعنى الاستقراء والتحليل والفهم، وتأكد هذا المعنى بأن أول كلمة نزلت من القرآن هي ( اقرأ ) وأول أداة ذكرت فيه هي ( القلم ).
وقد تواترت البشارات في الأناجيل المتداولة، ففي إنجيل برنابا(21)(36/6): “قد جاء الأنبياء كلهم إلا رسول الله الذي سيأتي بعدي، لأن الله يريد ذلك حتى أهيئ طريقه”، وفيه (44/19): “إن رسول الله مزدان بروح الفهم والمشورة، روح الحكمة والقوة، روح الخوف والمحبة، روح التبصّر والاعتدال، ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه إلى العالم”.
وبشارة تواترت تقول “اقترب ملكوت السماوات”(22)، و “ليأت ملكوتك”(23)، والذين بشّروا باقتراب ملكوت السماوات هم يحيى وعيسى عليهما السلام، وتابعهما الحواريون والتلاميذ، وفي إنجيل متى نقرأ قول المسيح:
“الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضّض ومن سقط هو عليه يسحقه”(24).
لقد كانت بعثة المسيح عليه السلام إذن هي المقدمة الأخيرة لمجيء الرسول الخاتم الذي صار رأس الزاوية.. وقد صور الرسول عليه الصلاة والسلام الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير حين قال:
” إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به، ويتعجبون ويقولون هلاّ وُضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”(25).
يقول الدكتور محمد عبد الله الدراز: “كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع. وكانت مهمة اللبنة الأخيرة أنها أكملت البنيان، وملأت ما بقي فيه من فراغ، وأنها كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء إنها إذاً سياسة حكيمة رسمتها يد العناية الإلهية لتربية البشرية تربية تدريجية لا طفرة فيها ولا ثغرة، ولا تناقض ولا تعارض، بل تضافُرٌ وتعانقٌ وثباتٌ واستقرارٌ، ثم نموٌ واكتمالٌ وازدهار”(26).
لقد اكتمل برسول الله بناء النبوة الشامل، وبهذا الاكتمال انتهى بناء الصرح العظيم فلا محل لزيادة فيه، يقول الله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(27).
ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(28).
نهايــة المسـيح عليـه السـلام
لم تكن نهاية السيد المسيح على الأرض أقل عجباً من ولادته! فبعد أن لاقت دعوته الرفض من يهود، وبعد أن بهتوا أمه البتول، فاض حقدهم عليه، فعزموا على قتله وصلبه، فنجّاه الله منهم ورفعه إليه، {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}، وفي إنجيل برنابا نقرأ: “دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيهاً بيسوع من كل وجه.. فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه.. وقادوه إلى جبل الجمجمة، وهناك صلبوه، ولم يفعل يهوذا شيئاً سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني”(29)، وفي هذا العصر برّأت الكنيسة اليهود من دم المسيح، لاقتناعها ضمناً بأن المصلوب لم يكن المسيح، وإلا فهل يعقل أن تُفرِّط الكنيسة بدم المسيح هذا التفريط مهما كانت الأسباب؟!. ونتساءل مع الدكتور سامي عصاصة: “هل اســتغرق اكتـشـــاف هــذا الخطأ ألفي عـام قبــل أن يجري تصحيحه؟!”(30).
ومثلما تفرّد القرآن الكريم بالحديث عن المسيح قبل مولده، تفرد أيضاً بالحديث عنه يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد. ففي موقف مستقبلي مهيب، يرسم القرآن الكريم مشهداً جليلاً يصور فيه موقف المسيح مع إخوانه الأنبياء بين يدي الله تعالى يوم الحساب: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (31).
إنه استجوابٌ هائل في موقف مرهوب، وجوابٌ من المسيح كله أدب مع الله، ((إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فهو لم يقل في جوابه “لا لم أقله”! وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، وحقاً إن التاريخ يغدو قصة فارغة إذا خلا من أدب الأنبياء، ومن سير الأنبياء، ومن تعاليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
تاريـخ المســلم
وثمة كلمة مسلمة نقولها في المسيح عليه السلام: إن المسلم لا يكون مسلماً أبداً إن لم يؤمن بأنبياء الله كلهم كإيمانه بمحمد عليه السلام، فإذا كفر بواحد منهم، أو تناوله بكلمة سوء واحدة، فقد انسلخ عن الإسلام، فمن لا يؤمن برسول من الرسل الكرام هو كمن لا يؤمن به كلهم، وإن تاريخ المسلم هو تاريخ الرسالات السماوية كلها، فهو يؤمن بإبراهيم وموسى وعيسى، وبالتوراة والإنجيل كإيمانه بمحمد وبالقرآن سواء بسواء، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (32).
والمسلم يسير أبداً في ركب الأنبياء عليهم السلام، فهو يترسَّم خُطاهم، ويعتبر تاريخَهم تاريخَه، ونحن المسلمين، مذ كنا صغاراً تفتحت قلوبنا على آدم في جنته، وعلى نوح في سفينته، وعلى إبراهيم يحطم الأصنام بساعديه، وعلى موسى إذ يشق البحر بعصاه، وعلى عيسى بن مريم إذ أتت به قومها تحمله فكلمهم في المهد، وعلى محمد في غاره يردّد قول الأمين جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.. نحن المسلمين-يقول القرضاوي: “إذا جاءنا اليهود تحت راية موسى، جئناهم تحت رايــة موســـى وعيســى ومحمد عليهم السلام”، ونحن المسـلمين لا نعيش – بحمد الله – أية عقدة تجاه أية رسالة سماوية أو أي رسول، ونحن كما قال نبينا محمد، “أولى الناس بعيسى بن مريم” إذ يسكن حبه وحب أمه الطاهرة في أعماقنا، وهذا الحب لا يوازيه إلا محبتنا لسائر الأنبياء الكرام.
هذه هي نظرتنا إلى الأنبياء فهل سينظر أتباعهم إلى نبينا النظرة ذاتها؟ يقول م. كويت “قد شب أغلب الغربيين على كراهية الإسلام، بينما شب المسلمون على حب المسيح والإنجيل المنزل عليه”(33). ويقول البريطاني أرسكين تشايلدرز: “إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لم تكن متوازنة من البداية! فقد اعترف الإسلام بالديانات السماوية واعتبر الإيمان بأنبيائها جزءاً من سلامة اعتقاد المسلم، في حين أن أهل هذه الأديان لم يعترفوا بالإسلام ولم يهادنوه يوماً”.
ويقول رينيه ديكارت في (مقالة الطريقة ): “نحن والمسلمون في هذه الحياة.. ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان”، ويقول المسلم د. محمد غريب: “لو عرف المسيحيون الإسلام وأسلموا لأكرموا المسيح عليه السلام أكثر”.
نأمل أن يكون البحث عن الحقيقة هو رائد الناس كل الناس، ونأمل أن يؤدي الصدق مع الذات إلى مراجعة واعية للمواقف والاعتقادات، ونرجو أن يؤدي التفكر والحوار الموضوعي دورهما في طريق البحث عن الحقيقة.
***.
من كتاب “ربحت محمداً ولم أخسر المسيح”.
————————————–
الهوامش:
(1) قرآن كريم، سورة آل عمران ( 3/59 ). (2) قرآن كريم ( 36/82 ).
(3) قرآن كريم، سورة مريم (19/15-34). (4) قرآن كريم، سورة الأنبياء ( 91 ).
(5) رواه البخاري ومسلم. (6) في كتابه (التسامح في الإسلام) ص(33).
(7) قرآن كريم، سورة مريم (32). (8) قرآن كريم، سورة المائدة ( 75 ).
(9) قرآن كريم سورة آل عمران ( 48 – 49 ). (10) متى (15/24 ).
(11) قرآن كريم، سورة النساء ( 171 ). (12) قرآن كريم (5/72).
(13) قرآن كريم، سورة المائدة ( 172 ). (14)(حياة الحقائق ) غوستاف لوبون ص (63).
(15) قصيدة (هذه الأسماط من اللآلئ ) غوته، نقلاً عن ( غوته والعالم العربي ) كاتارينا مومزن ص (255). (16) نفسه ص (257).
(17) عن ( الشرق والمغرب في أدب غوته ) عبد الرحمن صدقي ص (29).
(18) عن ( البحث عن الحقيقة الكبرى ) المهندس عصام قصب ص (345).
(19) سورة المائدة (5/46). (20) القرآن الكريم، سورة الصف ( 6 ).
(21) برنابا: هو أحد حواريي المسيح، وهو خال مرقس، وقد اكتشف إنجيله أول مرة في مكتبة القديس بطرس في الفاتيكان، وذلك قبل ظهور الإسلام بقرنين، وهو أوسع إنجيل ويفي بمعلومات كثيرة عن سيرة المسيح عليه السلام.
(22) متى ( 3/2 ) ومتى ( 4/17 ) ولوقا ( 10/11 ). (23) متى ( 6/10 ).
(24) متى ( 21/42 ) وانظر دانيال ( 2/44 ). (25) رواه البخاري.
(26) عن ( التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام ) محمد الغزالي ص (77).
(27) قرآن كريم، سورة المائدة (48). (28) قرآن كريم، سورة المائدة ( 3 ).
(29) إنجيل برنابا (216/9-79 ).
(30) (هل اليهودية التلموديــة ديـــن؟!) للدكتور سامي عصاصـة ص (211)، والتبرئـة صدرت في 24/11/1964غ عن المجمع المسكوني الفاتيكاني.
(31) سورة المائدة (108-119). (32) قرآن كريم، سورة البقرة (285).
(33) عن (مقدمات العلوم والمناهج ) العلامة أنور الجندي (8/166).