(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8}) (التكاثر).
هكذا يختم الله تعالى سورة “التكاثر” التي قننت لإعادة تموضع المجتمع المسلم وترقيته ومكانته الحضارية بعيداً عن سفاسف الأمور وتكاثر اللهو وثقافاته وسخافاته.
لقد رتبت هذه الآية بتشريع صارم المسؤولية عن النعيم.. إن النص يثبت المسؤولية الشخصية والعامة والخاصة عن النعيم ومصادره واتجاهات إنفاقه وآليات ذلك.
هكذا بإطلاق “عن النعيم”؛ إذ السؤال عنه مطلقاً لم يقيد فشمل كل هذه الأمور.
إنها مسؤولية حقيقية ومؤكدة وقاطعة كما يفيده التأكيد باللام والمضارع والنون “لتسألن”.
إنها من أبلغ وأقوى صيغ التأكيد في اللسان حتى يتأكد الحكم بلا ريب ولا شك ولا إمكانية وسواسية لنفس تكر حيناً وتخر حيناً.. نعم نحن مسؤولون عن النعيم بكل متعلقاته.
أتدرون ما النعيم؟! إن هذا النعيم هو الترفه وسائر الإمكانات والممكنات الترفيهية داخلة في ذلك.. أيها الإخوة، إن النعيم ليس محظوراً بل مباح، لكنه كذلك ليس عبثاً بلا سؤال، بل هو عبء من المسؤولية الإضافية.
إن درجة الرفاهية مشروعة بدرجة المباح لكنها منظمة بدقة كبيرة حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرتبة شرب الماء البارد.
حقيقة النعيم
إن كلام أهل التفسير يدور حول 10 معان منها 3 الحياة الصحة والأمن والغذاء.
وهو كلام صحيح لا غبار عليه استوفاه القرطبي وغيره.
وزاد بعضهم لذة النوم الهنيء وظلال السكن، ويا لها من لفتة دقيقة عميقة تهز أعماق النفس لتنتبه من طويل السبات هارعة نحو محراب الشك وميزان المحاسبة!
فالنعيم في الحقيقة كلمة جامعة لكل تنعم فوق الضروريات، واستنبطنا ذلك من جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الماء البارد من النعيم المسؤول عنه لا مجرد الماء؛ فالبرودة وصف إضافي نقله من رتبة النعمة المجردة إلى النعيم الذي يشملها وزيادة.
ووجدت ما يعضد هذا الاستنباط فيما نقله القرطبي قائلاً عن القشيري أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد لباساً يواري سوأته، وطعاماً يقيم صلبه، ومكاناً يقيه من الحر والبرد.
أيها القارئ الكريم، دعني أقل لك: إن الوصول إلى درجة النعيم المفيد لتناثر النعم وتكاثرها له ما وراءه من المسؤوليات الحضارية والأخلاقية والاجتماعية والبدنية والأسرية والإنسانية.
إن الإنسان مباح له التنعم لكنه مسؤول عن ذلك، مسؤول عن إدارة هذا النعيم واستغلاله ومصادره وموارده، لذلك جاء النص عن ماله “من أين؟ وفيمَ؟”.
إنها مسؤولية لا هزل فيها، مسؤولية تتضمن إشراك الغير فيه بما هو محدد بالنص من الحقوق.
(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً {26}) (الإسراء).
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 36).
إن الفرد والمجتمع والأمة والدولة إذا وصلوا إلى درجة النعيم لا بد أن تتغير فيهم مظاهر من الزينة والعمارة والترفه في الشؤون المختلفة من الحياة.
هنا تظهر أخلاق وعادات وتصرفات وقيم وتعاملات وسياسات جديدة تفرضها مرحلة النعمة.
تظهر تعاملات فيما بينهم ومع بعضهم ومع غيرهم ومع ذواتهم ودينهم ومشروع أمتهم الحضاري.
كما يمليه حال البذخ من الكبر والتعالي والإسفاف والمظالم والشهوات، أو كما تفرضه الشريعة التي رتبت المسؤولية على هذه النعيم مفترق طرق لا مناص منه وكل له مآلاته من الشرور والخيور.
إذاً.. هذا النص الدستوري (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8}) يفرض وجوباً إيجاد إستراتيجية للتعامل مع موجة النعيم وغاشيته.
ففرض إيجاد ذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وترك ذلك مفض إلى إغراق في اللهو والسرف والتبذير الممنوع شرعاً مما يؤدي إلى الفساد والانحراف الشخصي أو المجتمعي أو الحضاري وكل له ضريبته.
ولأن السؤال عن النعيم تترتب عليه عقوبات المخالفة (وإلا لما كان فيه فائدة وهذا باطل)؛ فنستنبط منه وجوب الإدارة الصحيحة المستقيمة للنعيم وموارده ومصادره واستعمالاته حتى لا يترتب على السؤال عقوبات المخالفة من الله في الدنيا والآخرة.
_______________________________________
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (بتصرف يسير).