هذا الشعار الذي انطلق في الربيع العربي “الشعب يريد إسقاط النظام” يضرب الآن الدولة اللبنانية، ويهتف الشعب اللبناني الشعب يريد إسقاط النظام، لكن السؤال: هل يستطيع الشعب اللبناني فعلياً إسقاط النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية وبناء نظام سياسي جديد ينتقل بهم إلى الدولة المدنية الحديثة.
النظام السياسي القائم
بموجب اتفاقية “سايكس بيكو” التي تمت المصادقة عليها من قبل عصبة الأمم، وُضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، وأعلن عام 1920 الجنرال غورو، المندوب السامي الفرنسي، إعلان لبنان الكبير، وذلك بضم مناطق لبنان الحالية إلى متصرفية جبل لبنان التي كانت تعامل تلك المتصرفية في الدولة العثمانية ككيان مستقل عن بلاد الشام، ويعين لها رئيس مسيحي غير تركي وغير لبناني بتنسيب وموافقة الدول الأوروبية العظمى وقتذاك.
عارض العرب المسلمون إعلان غورو للبنان الكبير، كونه يجعل منهم أقلية في لبنان؛ إذ إنهم كانوا يسعون للانضمام إلى سورية الدولة العربية الكبرى التي أعلنها الملك فيصل في ذلك الوقت، كما أن المسلمين سُنة وشيعة كانوا يعاملون الانتداب الفرنسي على أساس أنه احتلال أجنبي يجب مقاومته بخلاف الطائفة المسيحية التي كانت تعتبر نفسها امتداداً للحكم الفرنسي وأوروبا في منطقة الشرق الأوسط.
وضع الانتداب الفرنسي الدستور اللبناني وفقاً لأسس الدولة الحديثة، وكان هذا الدستور لا ينص في أي مادة من مواده على المحاصصة الطائفية للحكم، وجاء أول رئيس لبناني تحت الانتداب شارل دباس مسيحياً أرثوذكسياً، كون المسيحيين في ذلك الوقت كانوا أكثرية الشعب اللبناني، إذ مثلوا في إحصاء 1932 ما نسبته 51% من الشعب اللبناني.
بعد سنوات من عمر الانتداب كانت هناك ضغوط بعد ذلك من قبل بريطانيا والولايات المتحدة من أجل تسليم فرنسا السلطة إلى الوطنيين اللبنانيين، وكان الجدل كبيراً بين الطوائف الموجودة على الأرض، المسلمون يريدون أن يكونوا جزءاً من العمق العربي في سورية، والمسيحيون بقيادة السياسي إميل إده، أول مرشح خاسر في الانتخابات الرئاسية بعد الاستقلال، كانوا يريدون البقاء تحت الحماية الفرنسية، ويعتبرون أنفسهم امتداداً للحكم الفرنسي ويرفضون الذوبان في المحيط الإسلامي الكبير.
ما بين عام 1941 إلى عام 1943 ظهرت طبقة سياسية مسيحية يقودها بشارة الخوري، وطبقة مسلمة يقودها رياض الصلح كانت هذه الطبقة مقتنعة أنه من المهم الاعتراف باستقلال لبنان بشكله الذي أعلنه غورو عام 1923 على أن يكون المكون المسلم جزءاً من هذه الدولة، ويتخلى المكون المسيحي عن رغبته في أن يكون امتداداً للدولة الفرنسية، وجاء الميثاق الوطني اللبناني كاتفاق عرفي غير مكتوب بين بشارة الخوري، ورياض الصلح بتقاسم السلطة في البلاد، على أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، ويكون رئيس الوزراء مسلماً سُنياً، ويكون رئيس مجلس الشعب من الطائفة الشيعية، وفعلياً تم انتخاب بشارة الخوري كأول رئيس للبنان بعد إعلان الاستقلال عن فرنسا، وتم تعيين رياض صلح رئيساً للوزراء.
ظهر خلاف على عدد الدوائر الانتخابية ومقاعد النواب، فتدخل مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت، وتم الاتفاق على أن يكون لبنان 55 دائرة؛ يكون للمسيحيين 30 دائرة، وللمسلمين 25 دائرة، وهكذا أصبح لبنان جزءاً من محيطه العربي.
بقي العمل في ميثاق المؤتمر الوطني اللبناني العرفي حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، إثر اشتباكات ما بين الكتائب المارونية والفصائل الفلسطينية المسلحة التي تمركزت في لبنان، ثم تطورت الاشتباكات لتشمل كل مكونات الشعب اللبناني المسلم والمسيحي، والمسيحي المسيحي، ودخلت سورية على خط الأزمة، كما قامت “إسرائيل” بالدخول على خط الأزمة واحتلت الجنوب اللبناني لضرب الفصائل الفلسطينية وبناء تحالف إسرائيلي مع المسيحيين في لبنان، حرب استمرت 15 سنة، راح ضحيتها أكثر من 150 ألف قتيل من جميع الأطراف، وأكثر من مليون نازح ولاجئ، حتى جاء “اتفاق الطائف” برعاية المملكة العربية السعودية الذي أنهى الصراع وأعاد توزيع السلطة من جديد بأن جعل مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وجعل رئيس الوزراء من الطائفة السُّنية المسلمة مسؤولاً أمام البرلمان وليس أمام رئيس الجمهورية، وتم إعطاء رئاسة مجلس النواب للطائفة الشيعية، وتم تقسيم مقاعد مجلس الوزراء بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وتم ترسيم علاقة سورية بالبنان، وتم إعطاء الشرعية لحق مقاومة الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، وحل جميع الكتائب والمليشيات الطائفية باستثناء مليشيا “حزب لله” بصفته فصيلاً مقاوماً للاحتلال فقط، وبقي هذا الاتفاق يحكم العملية السياسية في لبنان حتى وقتنا الحاضر.
أرقام مقلقة في لبنان
الثورة في لبنان لم تكن ثورة سياسية؛ إذ بدأت الاحتجاجات على فرض ضريبة على المحادثات الهاتفية في تطبيق “واتساب” الشهير، ثم تطورت المطالبات لتشمل تحسين الحياة الاقتصادية، وتطورت بعد ذلك لتصبح احتجاجات على كل المنظومة السياسية القائمة؛ إذ إن الأرقام الاقتصادية والاجتماعية تشير إلى قلق كبير على مستقبل الدولة في لبنان وبنيتها الاجتماعية.
إذ يعاني لبنان من مديونية تقدر بمبلغ 85 مليار دولار بما يعادل 150% من الناتج المحلي، وبلغب فوائد هذه الديون ما يقارب نصف إيرادات الدولة السنوية، وهذه الديون في غالبها هي ديون للبنوك المحلية المملوكة لزعماء الطوائف والساسة المتحكمين بالمشهد السياسي، هذا الوضع في المديونية يشبه وضع اليونان قبل إشهار إفلاسها قبل عدة أعوام.
تشير الأرقام إلى وجود مشكلة طبقية طاغية في لبنان؛ إذ إن 1% من الشعب اللبناني يملك ثروة تزيد عما يملكه 58% من الشعب اللبناني، وإن ثروة 7 أشخاص لبنانيين فقط تزيد خمسة أضعاف عما يملكه الشعب اللبناني بكامله.
كما إن نسبة البطالة في لبنان بلغت حوالي 30%، فيما وصلت إلى 36% بين الشباب، وهي قد تكون من النسب الأعلى عالمياً، فيما يخسر لبنان سنوياً أكثر من 35 ألف شاب من أهل الخبرة والكفاءة في الهجرة للعمل في الخارج.
يشكل الفقر بشكل عام ما نسبته 30% في لبنان، بينما تزداد هذه النسب بكثير في مناطق الأطراف التي تعيش حالة من التهميش الاقتصادي.
كما احتل لبنان الرقم 138 من أصل 180 دولة على مؤشرات الفساد العالمية، فيما يتكبد لبنان مبلغ ملياري دولار سنوياً بسبب الفساد.
فيما أشارت إحصاءات عام 2019 إلى أن نسبة العنوسة في لبنان من عمر يوم إلى عمر 49 سنة بلغت 71%، ويعود ذلك بالشكل الرئيس إلى سوء الأوضاع الاقتصادية التي تحول دون الزواج.
هل يمكن إسقاط النظام السياسي القائم في لبنان؟
الميثاق الوطني اللبناني في عام 1943 واتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية الأصل أنهما قاما بتقسيم المناصب السيادية في لبنان، إلا أن التقسيم نزل ليضرب كل مفاصل الدولة من جيش وأمن وقضاء وكل الوظائف الحكومية، ومن هنا أصبحت الدولة عبارة عن تجمعات طائفية، فأصبحت الدولة شبه فاشلة يضربها الفساد، فتم تحويل القطاع العام إلى قطاع رعوي تضخم بشكل كبير من أجل التوظيفات الحزبية والطائفية مع غياب الكفاءة والإنتاجية، فأصبح تضخم وترهل القطاع العام أكبر مشكلة معقدة تواجهها الدولة اللبنانية.
في إحصاء عام 2018 جاءت النتائج لتشير إلى اختلاف التركيبة السكانية في لبنان، حيث بلغ المسيحيون ما نسبته 30.6% من الشعب اللبناني، فيما ارتفعت نسبة المسلمين إذ أصبحت الطائفة الشيعية تمثل الأعلى عدداً، حيث أصبحت تمثل ما نسبته 31.6% من عدد الشعب اللبنانيين، فيما تمثل الطائفة السُّنية 31.3% من الشعب اللبناني، وباقي النسب موزعة على الطوائف الأقل عدداً في لبنان والبالغة 18 طائفة معترف بها رسمياً.
فيما أعلن الأمين العام لـ”حزب لله” الممثل الأقوى للطائف الشيعية اللاءات الثلاث في وجه الاحتجاجات اللبنانية: “لا لإسقاط العهد السياسي القائم، ولا للانتخابات المبكرة، ولا لإسقالة الحكومة”، فيما جاء خطابه محذراً من تحول الاحتجاجات لحرب أهلية، وقدم تهديداً مبطناً للمحتجين من خلال التهديد بتنزيل أنصاره للشوارع، كما اتهم الاحتجاجات بأنها مدعومة من الخارج، وأن هناك مؤامرة خارجية على لبنان، فـ”حزب الله” من هذا الخطاب يتضح أنه يريد المحافظة على الوضع القائم، وأنه لا يريد أن يفرط بمكتسباته السياسية القائمة من خلال وجود رئيس حليف له، وحكومة يشارك فيها بعدد معتبر من الوزراء، وله عدد مؤثر في البرلمان.
جاء موقف سعد الحريري أكثر تعاطياً مع الاحتجاجات من خلال القبول بالدعوة إلى انتخابات مبكرة واستقالة الحكومة، دون أن يتضمن الحديث عن تغيير قواعد اللعبة السياسية التي جاءت بالميثاق الوطني واتفاق الطائف بعد ذلك.
فيما اكتفى الرئيس اللبناني عون بالحديث عن ضرورة تغيير الواقع الحكومي، دون الحديث عن أي انتخابات مبكرة أو تعديل قواعد اللعبة في النظام السياسي القائم.
في الوقت الذي يجمع فيه الزعماء السياسيون للطوائف الثلاث على عدم الحديث عن تبديل قواعد اللعبة السياسية، والاستمرار بالتحرك ضمن قواعد اللعبة القديمة ونطاقها وتقسيماتها وحديثهم عن إصلاحات بهامش بسيط لا يغير الواقع؛ فإن المحتجين اللبنانيين بدؤوا يدركون أن أزمتهم الاقتصادية هي عرض لمرض الأزمة السياسية، وأن نظام المحاصصة الطائفية لم يعد قادراً على تلبية طموحات الشعب اللبناني وإدارة الدولة واستمراريتها، كما أن نظام المحاصصة هدم بنية الدولة اللبنانية وإمكانية تطورها، فنزلوا للشوارع متخلين عن طائفيتهم، متحركين بوجعهم الاقتصادي الضاغط، فالمحتجون يصرون حتى الآن على أنهم غير معنيين بكل ما يطرحه الساسة في لبنان، وبدؤوا وكأنهم أقرب إلى تشكيل رؤية شعبية موحدة، عنوانها أن زمن اقتسام السلطة على أسس طائفية قد انتهى، وجاء الزمن الذي يكون فيه لبنان دولة مدنية لا صوت فيها أعلى من صوت المواطنة والقانون بعيداً عن فوارق اللون أو الجنس أو الدين أو العرق.
النضوج الذي تمتعت به الاحتجاجات اللبنانية، وهذه الفسيفسائية من كل الطوائف والمناطق، تقول: إنه يمكن لهذا الحراك أن يقول كلمته في تغيير النظام السياسي، وينجح في إنهاء عصر المحاصصة الطائفية القائم منذ 80 عاماً، ويعيد السلطة للشعب، ليخرج من بينهم من يرعى مصالحه ويطور مواردهم وينهي حالة تقاسم الثروات والمناصب والفساد بين ساسة الطوائف.
لكن هل ينجح المحتجون في بلورة هذه المطالب وإسقاط نظام المحاصصة الطائفية وبناء لبنان الدولة الحديثة؟ هذا يعتمد على عدة عوامل؛ أهمها نضوج النخب التي تتواجد في ميادين الاحتجاج، ووعي تلك النخب في التغلب على محاولات زعماء الطوائف المتكسبين في جر لبنان إلى مربع التخندق الطائفي الكفيل بإنهاء هذه الاحتجاجات إلى نهايات بائسة ومؤلمة للجميع.