نسيت المفتاح، وهذا شيء متوقع في زحمة الحياة وتباين درجات الحرارة، وأخبار العالم التي تتابع من حولي، حروب وصراعات وضوضاء في كل مكان، هل أصابت الناس عدوى غريبة؟
يخيل إليَّ أنني مكلف بحل كل القضايا الراهنة، بلغت بي الحيرة درجة لا يمكن تصورها، أخذت ألفّ وأدور حول النوافذ التي يمكن التسلل منها إلى الداخل؛ ليتني تركت في الجدار كوة.. من يفتح لي؟
وحيد في هذا المكان، حين يبلغ بك العمر مراحله الأخيرة تصاب بالخرف، تنسد كل وصلات الذاكرة، بدأت أتساءل: هل نسيتها في سيارة ما؟
أو لعل لصاً مد يده في جيبي، في تلك المدينة يضع الناس أيديهم في جيوب الآخرين، باعة الأطعمة الجاهزة، نساء تجبرك أن تتجنب المشي على قدميك، واجهات المحال تبدو أكثر إغراء بما تعرض، في السنوات المقبلة ربما يدفع الناس نقوداً على الجري وراء حافلات النقل العام، كل شيء هنا يجري وراء أمر ما، يبحثون عن وسيلة عبور إلى العالم الآخر، انتهت صلاحية الأوراق الرسمية؛ أبدو منتشياً لم يمسني من هذا أي عارض، حتى الآن أوراقي كما هي، نقودي التي لا نفع من ورائها معي، بطاقة هويتي الصفراء التي تلح عليَّ دائماً ألا أتغافل عنها؛ فهي شارة أمان للعبور من البوابات الحديدية؛ لا يمكن أن تمر من بين الحوائط الخرسانية أو تتجاوز السياج دونها.
في الصحيفة خبر: بلغ معدل العنوسة حده الأقصى، لم أهتم بهذا، اعتادت الصحف في بلادنا على الكذب، حتى مصلحة الأرصاد الجوية لا تصدق في تنبؤاتها، ها هي درجة الحرارة تفوق معدلاتها، تزعم تلك الصحف أن العنوسة سترتفع؛ غير معقول أن تمتلئ الشوارع بأناس آخرين، حافلات النقل العام باتت تشبه علب الصفيح في مقالب نفايات المدينة.
لعنة الله على تلك التي جلست بجوارها في الحافلة فشعرها كاد يحجب عني الرؤية؛ تتعمد أن تزيحه عن عينيها؛ رغم أنها تعتاد رؤيتي كل ظهيرة؛ تسرع وتلحق بي، في البداية كنت أتجنب النظر إليها، أوصتني أمي بالحذر من هؤلاء؛ إنهن بارعات في كل شيء، تصر دائماً أن تضع عطراً ناعماً، غير معقول أن تكون معجبة بي؛ فأنا موظف بسيط؛ لا يكاد راتبه يفي بطعامه، يقضي بقية يومه متسكعاً في شوارع المدينة التي لا تنام، في هذه المرة نزلت من الحافلة، إذا بها تزاحمني السير، تمشي بجواري، كلما انعطفت جهة تتبعني سيما لا أثر لرجل غيري يدب في الطرقات.
أي امرأة تلك؟
ما الذي يغريها بي؟
جسدي مترهل، وجهي ينتمي إلى زمن الأبيض والأسود؛ دائماً كنت معجباً بهذه الرواية “الأسود يليق بك”، يبدو أن جهة رقابية ترصدني، حين أمرّ من تحت صورة الزعيم أقدم له التحية التي لا يمكن أن يوزع الراتب الشهري في الماكينة دون أن تحصى فروض الولاء.
لكم أن تتخيلوا أنني لا أعرف في تلك المدينة مكاناً غير جهة عملي؛ مؤكد أنهم يعرفون هذا!
هل تدبر لي شراً؟
فجأة عندما لمحت رجل الشرطة الذي يقف صامتاً، ينظر دائماً في ساعته، لا أدري بالضبط طبيعة عمله؛ أسرعت وأشارت إليه؛ انقض عليَّ ومن ثم خط بقلمه علامة في خدي؛ تراقصت تلك المرأة التي اعتادت الجلوس جواري، أسرعت بخلع معطفها البرتقالي، ظهر ثوبها الأبيض؛ باتت عروساً في أبهى زينة؛ الشيخ الجالس في عربة رجل الشرطة يكتب في أوراقه الرسمية، الساعة التي كان ينظر فيها ذلك الشرطي أعطته كل بياناتي؛ تلك المرأة لم تعد تضع عطراً ناعماً؛ لا حاجة بها إلى أن تحرك شعرها، تملكتني خوف شديد، ترى هل ستقبض تلك الأنثى راتبي؟
مؤكد أن ذلك العقد يضمن لها كل هذا، هل ستجلس بجواري في حافلة النقل مرة أخرى، أخذت أفكر في كل شيء، والآن وجب عليَّ أن أطرق باب تلك الشقة التي أقف أمامها، لقد أخذت المفتاح بطريقة ما، بعد كل هذا؛ ما يزال مقعدها بجواري خالياَ!