قبل أن نلج في صلب موضوعنا نريد التنبيه على أننا لا نقصد بالعوام الإهانة أو التقليل من الشأن لأي إنسان كائنًا من كان.
ولا نقصد بالعوام السوقة أو الرعاع أو الأوباش أو أي معنى يحمل في طياته أي انتقاص.
وللعوام خصائص عقلية ونفسية يتميزون بها؛ فالعقل الجمعي للعامة عاطفي أكثر منه عقلانيًّا، وفكرهم بسيط لا تعقيد فيه، وآراؤهم غير ثابتة تتحول من النقيض للنقيض.
وإذا أحبوا شخصًا يرفعونه عاليًا، وإذا كرهوه جعلوه في أسفل سافلين.
وقد نبه الإسلام على ذلك؛ فقد روي أن النَّبِي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»([1]).
وقَالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»([2]).
وَكذا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»([3]).
أما ابْنُ الْجَوْزِيِّ فقد قال: «وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْلِي مَا لَا يَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَام»([4]).
وفي نفس المعنى قال السمعاني: «ولا يروى ما لا يحتمله عقول العوام»([5]).
وقد تكلم الجاحظ عن العامة وبعض طبائعهم فقال: «العامة وإن كانت تعرف جُمَل الدين بقدر ما معها من العقول، فإنه لم يبلغ من قوة عقولها، وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء، ولم يبلغ من ضعف عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال.
وأقدار طبائع العوام والخواص، ليست مجهولة فيحتاج إلى الإخبار عنها بأكثر من التنبيه عليها؛ لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع الخلفاء، وطبائع الخلفاء فوق طبائع الوزراء، وكذلك الناس على منازلهم من الفضل، وطبقاتهم من التركيب، في: البخل والسخاء، والبلادة والذكاء، والغدر والوفاء، والجبن والنجدة، والصبر والجزع، والطيش والحلم، والكبر والتيه، والحفظ والنسيان، والعي والبيان.
ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة، كانت العامة خاصة، وذهب التفاضل في المعرفة، والتباين في البنية.
ولو لم يخالف بين طبائعهم لسقط الامتحان وبطل الاختبار، ولم يكن في الأرض اختيار، وإنما خولف بينهم في الغريزة ليصبر بها صابر، ويشكر شاكر، وليتفقوا على الطاعة، ولذلك كان الاختلاف هو سبب الائتلاف»([6]).
وفي العصر الحديث اهتم غوستاف لوبون بدراسة نفسية الجماهير، ووضع يده على أمور مميزة للجماهير وسلوكها.
فهو يرى -مثلاً- أن «الجماهير غير ميالة كثيرًا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية»([7]).
وتكلم عن الفرد وكيفية ذوبانه في الجمهور فقال: «مجموع الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور:
تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرَّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.
وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.
هذا يعني أنه بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة؛ فهو عندما يكون فردًا معزولاً ربما يكون إنسانًا مثقفًا متعقلاً، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودًا بغريزته وبالتالي همجيًّا، وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وحماستها وبطولاتها – أيضًا، ويقترب منها أكثر بالسهولة التي يترك نفسه فيها عرضة للتأثُّر بالكلمات والصور التي تقوده إلى اقتراف أعمال مخالفة لمصالحه الشخصية بشكل واضح وصريح.
إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها.
إن الفرد المنخرط في الجمهور لا يختلف فقط بالأعمال والتصرفات عن نفسه وهو في الحالة العادية، وإنما نلاحظ أنه حتى قبل أن يفقد كل استقلالية فإن أفكاره وعواطفه قد تحولت وتغيرت إلى درجة القدرة على تحويل: البخيل إلى كريم، والشكَّاك إلى مؤمن، والرجل الشريف إلى مجرم، والجبان إلى بطل.
إن الجمهور هو دائمًا أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية.
ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها.
وهذه هي النقطة التي جهلها الكُتَّاب الذين لم يدرسوا الجماهير من وجهة النظر الجرائمية.
صحيح أن الجماهير غالبًا ما تكون مجرمة، ولكنها غالبًا ما تكون -أيضًا- “بطلة”.
فمن السهل اقتيادهم إلى المذبحة والقتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية أو فكرة ما.
ومن السهل تحريكهم وبث الحماسة في مفاصلهم من أجل الدفاع عن المجد والشرف»([8]).
الأداة الفتاكة
وقد اخترت النصوص السابقة لأني سأدلل عليها بما جرى لبعض كبار العلماء من البلاء والامتحان والتضييق والقتل في بعض الأحايين، وقد كان العامة هم الأداة الفتاكة.
فهذا البخاري صاحب الصحيح يبتلى بسبب حسد أقرانه له واستخدامهم للعامة في هذه المعركة، وكانت عقولهم لا تستوعب دقيق المسألة التي امتحنوه فيها.
وابتداء ننظر كيف كان دخول البخاري لنيسابور، قال مسلم بن الحجاج: «لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليًا ولا عالمًا فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، استقبلوه مرحلتين وثلاثة.
فقال محمد بن يحيى في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدًا فليستقبله.
فاستقبله محمد بن يحيى وعامة العلماء.
قال: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل، حتى امتلأ السطح والدار، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث، قام إليه رجل، فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا.
فوقع بينهم اختلاف، فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، حتى تواثبوا، فاجتمع أهل الدار، وأخرجوهم»([9]).
المشاكل مع الإمام البخاري لم تتباطأ عليه، بل جاءته سريعة بعد قدومه مباشرة، وقد حسده محمد بن يحيى الذهلي وألّب الناس عليه وكان له سطوة على الناس، فانفض الناس من حول البخاري، قال أحمد بن سلمة: “دخلت على البخاري، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا رجل مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه، فما ترى؟ فقبض على لحيته، ثم قال: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} [غافر: 44].
اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرًا ولا بطرًا، ولا طلبًا للرئاسة، وإنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدًا لما آتاني الله لا غير.
ثم قال لي: يا أحمد، إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي.
قال: فأخبرت جماعة أصحابنا، فوالله ما شيعه غيري”([10]).
ما أسرع تحول العامة والخاصة وانقلابهم على الإمام البخاري، والطعن في عقيدته، وإخراجه من بلدهم بعد استقبالهم له بأيام.
وهنا اجتمع الحسد مع عدم قدرة العامة على فهم المسألة التي يتكلم فيها البخاري.
أما الإمام النسائي فكان الأمر معه أشد؛ إذ إن ثورة العامة عليه قد أفقدته حياته؛ فإنه “دخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسًا برأس حتى يروى له فضائل.
فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع فسار من عندهم إلى مكة فمات بها في هذه السنة وقبره بها.
هكذا حكاه الحاكم عن محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه.
وقال الدارقطني: كان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه، فضربوه في الجامع.
فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل فتوفي بمكة مقتولاً شهيدًا مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره.
مات بمكة سنة ثلاث وثلاثمائة”([11]).
هنا لم يحتج العوام استثارة من أحد؛ فقد هجموا على الإمام النسائي لمخالفته لما هو مستقر عندهم من الميل إلى سيدنا معاوية والتجافي عن سيدنا علي.
لكن تهجمهم لم يكن باللسان فقط أو الطرد، بل زاد العنف في الضرب حتى أفقدوا الرجل حياته.
ومن الحوادث العجيبة من رجل من عوام مصر إقدامه على قتل أحد الأئمة الكبار؛ لعدم فهمه لما يفعل.
فـ«أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحاس، النحوي المصري؛ كان من الفضلاء، وله تصانيف مفيدة، وكان للناس رغبة كبيرة في الأخذ عنه، فنفع وأفاد، وأخذ عنه خلق كثير.
وتوفي بمصر يوم السبت لخمس خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وقيل: سنة تسع وثلاثين، رحمه الله تعالى؛ وكان سبب وفاته أنه جلس على درج المقياس على شاطئ النيل، وهو في أيام زيادته، وهو يقطِّع بالعروض شيئًا من الشعر، فقال بعض العوام: هذا يسحر النيل حتى لا يزيد فتغلو الأسعار، فدفعه برجله في النيل، فلم يوقف له على خبر»([12]).
وقد كان للعامة سطوة في بعض الأحيان حتى إنهم ليمنعون من دفن أحد أكابر العلماء، ولو صحت هذه الرواية فستكون المصيبة عظيمة، قال ياقوت الحموي عن أبي جعفر الطبري: «دفن ليلاً؛ خوفًا من العامة؛ لأنه يُتهم بالتشيع([13]).
([1]) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس»، (1/398)، ح(1611) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ضعَّف إسناده السخاوي في «المقاصد الحسنة»، صـ164، ح(180).
([2]) أخرجه البخاري في «العلم»، باب: «مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا»، (1/37)، ح(127).
([3]) أخرجه مسلم في «المقدمة»، باب: «النَّهْىِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، 1/10.
([4]) الآداب الشرعية، لابن مفلح، 2/150.
([5]) أدب الإملاء والاستملاء، للسمعاني، صـ59.
([6]) العثمانية، للجاحظ، صـ256-257.
([7]) سيكولوجية الجماهير، لغوستاف لوبون، صـ45.
([8]) السابق، ص(60-61) باختصار.
([9]) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/458) باختصار.
([11]) البداية والنهاية، لابن كثير، (11/124) باختصار.