في ظل جائحة كورونا التي أصابت العديد من الدول لا نتفاجأ عندما ترسل تركيا المساعدات الطبية إلى دول مثل صربيا ومقدونيا والصومال والبوسنة وليبيا خاصة أن بعض هذه الدول تتلقى المساعدات والإعانات في الأوقات العادية، وقد كانت تركيا تقدم المساعدات لهذه الدول وغيرها في إطار الدبلوماسية الإنسانية أو ما يعرف بالقوة الناعمة التركية والتي بالتأكيد تستفيد منها تركيا على المدى المتوسط والبعيد.. وكانت تركيا هي الدولة الأكثر سخاء في عام 2018م من حيث تقديم المساعدات.
لكن المفاجيء عندما نجد أن من بين الدول التي قدمت لها تركيا مساعدات هي بريطانيا العضو الدائم في مجلس الأمن وأعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي إيطاليا وإسبانيا، بل أن تركيا كانت أول دولة من حلف الناتو تقدم المساعدات لإيطاليا وإسبانيا، وفي 8 أبريل/نيسان الجاري أصدر الحلف بياناً أعرب فيه عن “بالغ امتنانه من دعم تركيا لدول في منطقة البلقان”، معتبراً أن المبادرة التركية “مثال رائع على معركة الحلفاء ضد الجائحة كورونا”.
وقد قالت وزارة الصحة التركية في بيان لها، إن وزيرا الصحة البريطاني مات هانكوك والروسي ميخائيل موراشكو عبّرا عن شكرهما لنظيرهما التركي فخر الدين قوجه، على المساعدات الطبية التي قدمتها تركيا إلى بلديهما، في إطار مكافحة وباء كورونا.
وقد ذكر تقرير لقناة TRT أن تركيا قدّمت دعماً إلى 53 دولة من ناحية المسلتزمات الطبية، بينها ألمانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا وبريطانيا وإيران والصين وجمهورية شمال قبرص التركية وفلسطين وإسبانيا وإيطاليا والصومال وصربيا وتونس.
وفيما تقدم تركيا مساعدات مجانية للعديد من الدول فإنها أيضاً تسمح ببيع بعض المعدات الطبية التي يمكن بيعها للدول التي لها مقدرة على الشراء حيث تمتنع الكثير من الدول عن بيع هذه المعدات خشية تطور الأزمة لديها، وفيما قدمت تركيا معدات وقائية تمس الحاجة لها لبريطانيا، فقد وافقت تركيا على بيع معدات طبية لازمة لمكافحة كورونا حيث أن العديد من الدول تمتنع عن بيع هذه المعدات في الوقت الحالي وتفرض قيوداً على تصديرها.
وفي ظل الخلاف الدبلوماسي مع “اسرائيل” وافقت تركيا على بيع شحنات طبية لكنها في نفس الوقت اشترطت أن تسمح “إسرائيل” لتركيا بإيصال المساعدات الطبية اللازمة للسلطة الفلسطينية، وكانت 3 طائرات “إسرائيلية” ستهبط في انجرليك لاستلامها ولكن تعنت رئيس الوزراء “الاسرائيلي” أدى إلى تعليق هذه العملية.
كما سمح الرئيس أردوغان بتوفير أدوية طلبتها دولة أرمينيا بالرغم من الخلاف التاريخي بين البلدين، وهذا أمر يشير بوضوح إلى الدبلوماسية الإنسانية التي تمارسها تركيا.
تحاول تركيا أن تبرز نفسها كنموذج من جديد في الداخل والخارج. عندما يرى المواطنون الأتراك – والدولة حريصة أن يرى مواطنوها ذلك من خلال تغطية عمليات المساعدات سواء في المطارات أو من خلال المؤتمرات الصحفية للمتحدثين- أن دولتهم تقدم لهم الفحص والعلاج مجاناً فيما تأخذ فرنسا من مواطنيها 50 يورو على كل فحص، وبينما توزع تركيا الكمامات مجاناً على مواطنيها تبيع ألمانيا كل 10 كمامات بحوالي 15 يورو لمواطنيها، فإن المواطن التركي يشعر بوقوف حكومته بجواره واهتمامها به وبالتالي يزيد ولائه لها.
وبالطبع يندرج تحت هذا الأمر توفر البنية الصحية القوية والقدرة على انتاج أجهزة تنفس بقدرات وإمكانات محلية حيث أنتجت 4 شركات بشكل مشترك في وقت قصير جداً 100 جهاز تنفس وسلمتها لوزارة الصحة وتعهدت بتسليم 5000 جهاز آخر خلال أقل من 40 يوماً.
وحتى عندما تقدم تركيا المساعدات خارجياً، فإن هذا يُشعر المواطن التركي في الداخل بالاطمئنان لأنه لو كان هناك نقص في هذه المواد لما سمحت الدولة بتصديرها ولما قدمتها كمساعدات خارجية، وهذا أمر إذن من شأنه أن يرفع من صورة الدولة لدى مواطنيها ولدى مواطني الدول المستقبلة للمساعدات.
وعندما تخص تركيا دولاً موبوءة مثل إيطاليا وإسبانيا فإنها ترفع صورتها وسمعتها عالمياً بالوقوف مع دول كبرى فعندما تقدم مساعدات لدولة أكبر منك اقتصادياً وعسكرياً مثل بريطانيا والصين وألمانيا فهذا يعطيك تفوق أخلاقي ومكانة كبيرة، بالإضافة إلى رفع مستويات الثقة مع هذه الدول وفتح آفاق أكبر للعلاقات.. وتحديداً عندما تقدم تركيا مساعدات لدول الاتحاد الأوروبي فإن هذا يحمل دلالات رمزية للدول التي كانت تعارض بشدة انضمام تركيا للاتحاد وتركتها وحيدة في مواجهة قضية اللاجئين والحرب في سوريا.
وقد أعجبتني إشارة في أحد التقارير لموقع مونتو كارلو ذكرتها الباحثة جنى جبور وهي أن الدول الأوروبية كانت تطلق على الدولة العثمانية “الرجل المريض” “إن الأمر يتعلق بإظهار أن تركيا هي قوة نافذة ولديها القدرة على تقديم المساعدة إلى الدول الأوروبية، التي أصبحت بدورها “مريضة”، بالمعنى الحرفي والمجازي”.
وعلى صعيد آخر تفتح هذه السياسة التركية آفاق أكبر للعلاقات أبعد من أوروبا ويمكن أن نضرب مثالاً على ما كتبه رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد بعد اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “أشكر جهود الرئيس أردوغان في دعم مساعي بلادنا في مكافحة كورونا، وأنتظر بفارغ الصبر العمل المشترك في توفير المعدات الطبية اللازمة لمواجهة الفيروس”.
تخدم هذه المساعدات صورة تركيا في مجال الدبلوماسية الإنسانية وتخدم فكرة بناء النموذج وترميمه بعد انخراط تركيا في الكثير من الملفات الشائكة في العقد الأخير.