إن حال المسلمين خارج ديار الإسلام يحتاج إلى اجتهادات جديدة ومراعاة لفقه الواقع، ومعلوم أن المسلمين خارج ديار الإسلام يشكلون أقليات إسلامية في العموم، ولهم أوضاع متشابهة كثيرة، ويختلف بعضهم عن بعض في جانب آخر، من بلد إلى بلد بحسب قوانينه وتصوراته وموقفه من المخالفين في الدين.
والمسلمون خارج ديار الإسلام نوعان:
الأول: مواطنون في تلك الدول ومن أهلها وقوميتها ويحملون جنسيتها، سواء كانوا بالأصالة أو بالتجنيس.
الثاني: المقيمون في تلك الديار غير الإسلامية ممن نزحوا من بلادهم الأصلية، وحصلوا على تأشيرة دخول، ثم على إقامة.
والأقليات المسلمة في الشرق والغرب تواجه مشكلات متعددة، يجب دراستها عملياً وميدانياً للوصول إلى الحق، ومن غير المقبول أن يفتي في شأن هؤلاء من يجلس بعيداً في عاصمته الإسلامية أو العربية، وكأنه يتكلم في شأن أناس يعيشون تحت حكم إسلامي، فلا تجد فتواه محلاً لها بين هؤلاء المسلمين، وتتفاقم المشكلات ويكثر السؤال عنها، ومشكلات الأقليات المسلمة في الغالب مشكلات داخلية في البلد الذي يقيمون فيه.
في كتاب “فقه الجاليات الإسلامية في الغرب” (ص13) يقول د. يوسف القرضاوي: “يترتب على المسلم الذي يعيش في الغرب –دار العهد– أن يحترم العهد الذي بينهم وبين المسلمين، حتى القرآن يقول في المسلمين الذين يعيشون في غير ديار الإسلام: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (الأنفال: 72)، يعني: ليس عليكم أن تنصروهم حتى يهاجروا ويأتون إلى دار الإسلام: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)؛ يعني الميثاق هنا أقوى من الرابطة الدينية.
ويقول الشيخ فيصل المولوي: “إنَّ من واجبنا الشرعي أن نلتزم قوانينهم فيما لا معصية فيه، إن حقوقنا في هذه البلاد هي ما تعطينا قوانينهم من حقوق ولا يجوز لنا أن نتجاوز هذه القوانين باحتيال أو كذب أو خديعة أو غدر، ومطلوب ممن يتصدر للفتوى في شأن الأقليات المسلمة أن يكون ملماً بفقه الواقع، ولا يعني فقه الواقع، الالتزام بالرخصة، وفقه الترخيص، وإنما يجب مراعاة فقه المقاصد والأحوال والظروف الواقعية، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات وفقه المآلات.
حكم التحاكم إلى المحاكم غير الإسلامية:
إن محل البحث المختلف فيه بين العلماء هو حالة كون المسلم مدعياً مطالباً بحقه في أمر جنائي أو أمر مدني في المعاملات المالية أو الأحوال الشخصية.
إن من المقرر شرعاً وعقلاً ونظاماً وقانوناً أن صاحب الحق مخير –من حيث المبدأ– بين المطالبة بحقه، برضائه الكامل، أو التنازل عنه، أو إسقاطه أو الإبراء منه، سواء كان الطرف الثاني مسلماً أو غير مسلم، وسواء كان ابتداء، أو عن طريق الصلح أمام القضاء.
ومن المقرر شرعاً وعقلاً، أن صاحب الحق لا يُلزَم، ولا يُجبَر على التنازل عن حقه، وأن حق التقاضي مكفول للجميع، ومقرر لكل من يقيم على أرض الوطن، فما الحكم الشرعي في اللجوء إلى المحاكم في غير ديار الإسلام؟
د. عبد الرحمن الهرفي يصوِّر المسألة ببساطة لتشمل البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، فيقول: “مسلم اعتُدي على ماله أو عرضه أو نفسه، فهل له الحق أن يترافع للكفرة لأخذ حقه أو دفع الشر عنه؟ وهل فعله هذا يُعد معصية يأثم عليها، أو كفراً يرتد به، أو فعل خلاف الأولى؟
وهذا المسلم لم يجد إلا حكم الكافر، وهو مبغض له ولحكمه، ولن يأخذ إلا حقه الذي شرعه الله له. (حكم من تحاكم إلى الطاغوت، ص9).
ثم أشار الهرفي إلى أن الحل السديد يكمن في التفريق بين دار الإسلام ودار الكفر، فمن فرق بين الدارين انتهى عنده الإشكال، ثم عرض آراء العلماء في التفريق بين الدارين وما يترتب على ذلك من أحكام.
آراء العلماء في التحاكم إلى المحاكم غير الإسلامية:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم التحاكم إلى المحاكم غير الإسلامية على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: منع التحاكم مع التكفير، وصاحب هذا الرأي هو الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله، والشيخ سليمان بن سمحان رحمه الله واستندا في رأيهما إلى صحيح الآيات التي تنهى عن التحاكم إلى غير الله تعالى، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء: 65)، وقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (المائدة: 50) (حكم من تحاكم للطواغيت، ص 25).
الرأي الثاني: منع التحاكم بدون تكفير، وصاحب هذا الرأي هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله، والشيخ علي الخضير رحمه الله، واستندوا في رأيهم إلى الآيات السابقة إلا أنهم لم يكفروا من يتحاكم إلى غير الشريعة إلا إذا اعتقده صاحبه. (المرجع السابق).
الرأي الثالث: جواز التحاكم إلى المحاكم الأجنبية:
أجاز أكثر العلماء المعاصرين التحاكم خارج ديار الإسلام للمحاكم الأجنبية وهذه بعض أقوالهم:
1- سئل الشيخ حمود العقلا الشعبي رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يتحاكم للكفار لأخذ حقه المغتصب؟ فقال: نعم، وهذا ليس بتحاكم، هذا يأخذ حقه.
2- ورد في قرارات المجمع الفقهي الإسلامي الدولي بيان من الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بشأن الرواية التي كتبها المدعو سلمان رشدي، القرار الثالث: يعلن المجلس أنه يجب ملاحقة هذا الشخص بدعوى جزائية تقام عليه وعلى دار النشر التي نشرت له هذه الرواية في المحاكم المختصة في بريطانيا، وأن تتولى هذه الدعوى عليه منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية.
وكان ممن وقع على هذا البيان الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رئيس المجلس، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان رحمه الله، والشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، وغيرهم من العلماء. (كتاب حكم من تحاكم إلى الطاغوت، ص252).
3- سئل الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله: ما حكم التحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية؟
فأجاب: “بقدر الإمكان لا يتحاكم إليها، أما إذا لم يمكن أن يستخلص حقه إلا عن طريقها فلا حرج. (المرجع السابق).
4- يقول المستشار فيصل مولوي: “لقد أجاز الفقهاء المعاصرون اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي للوصول إلى الحق أو حسم الخلاف إذا كان الطريق الوحيد إلى ذلك ولا طريق غيره”.
ثم قال: “والمسلم حين يلجأ إلى القضاء غير الإسلامي مضطراً فلا إثم عليه، أما إذا كان أمامه مجال الاختيار بين القضاء الإسلامي والقضاء غير الإسلامي، فيجب عليه أن يختار الأول، ولا يجوز له أن يلجأ إلى الثاني. (بحث التحكيم في بلاد الغرب، إشكالية الطرح والمعالجة، المستشار فيصل مولوي).