مع اقتراب تعداد اللاجئين الأوكرانيين من 4 ملايين شخص (3.9 مليون حتى أمس الثلاثاء)، زادت المخاوف الأوروبية مما يوصف بـ”أسوأ تدفق للاجئين في القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية”.
وفي المجموع يُعتقد أن أكثر من 10 ملايين شخص، أي ما يزيد على ربع عدد السكان، فروا من ديارهم، في ظل نزوح أكثر من 6.5 مليون أوكراني داخل البلاد حتى الآن، وسط تقديرات الأمم المتحدة بأن 90% من الفارين هم نساء وأطفال.
أمريكا: تحدٍّ أم فرصة؟
وعلى الرغم من المخاوف المتعلقة بقدرة بعض الدول الأوروبية الصغيرة على استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، فإن دولًا أخرى بدأت ترى في تدفق اللاجئين وسيلة للحصول على يد عاملة رخيصة وتلافي ظاهرة المجتمعات المسنة التي تعانيها الكثير من الدول الغربية.
فمن جانبها، ستستقبل الولايات المتحدة ما يصل إلى 100 ألف لاجئ فروا من أوكرانيا هربا من الغزو الروسي، وأكد البيت الأبيض في بيان أن “الولايات المتحدة تعلن عن خطط لاستقبال ما يصل إلى 100 ألف أوكراني من خلال مجموعة كاملة من المسارات القانونية، ومن بينها البرنامج الأمريكي لاستقبال اللاجئين”.
ولا يمكن الفصل بين الخطوة الأمريكية الأخيرة باستقبال اللاجئين وحقيقة معاناة الولايات المتحدة من أزمة تتفاقم، وهي متعلقة بتراجع معدلات النمو السكاني.
فالشاهد أن الولايات المتحدة عاشت أزمة حقيقية في معدلات نمو السكان خلال عام 2021، بتسجيلها نموًّا بلغ 393 ألف نسمة فحسب في العام المنصرم (هو الأدنى منذ الحرب العالمية الثانية)، بما دفع كثيرين إلى التحذير من تداعيات ذلك على الاقتصاد.
تراجع سكاني
فالولايات المتحدة شهدت تراجعا مستمرا في معدل نمو السكان، حيث تراوح الرقم حول مليوني نسمة بين عام 2011 وعام 2017 واستمر في الانخفاض حتى بلغ 1.1 مليون نسمة في 2020 إلا أن 2021 شهد تراجعه بشكل كبير.
وما يزيد المخاوف الأمريكية حقيقة أن نصف الولايات الأمريكية سجلت نموا متعادلا (ليس سالبا أو موجبا) أو سالبا للسكان، بما يعكس توغل أفكار حول عدم الإنجاب في الكثير من الولايات الأمريكية واحتمال انتشار تلك الثقافة في الولايات الأخرى ذات معدل النمو السكاني الموجب لاحقا.
كما أن الخطوة الأمريكية تأتي أيضا في وقت تراجع فيه معدل الهجرة الصافي من مليون شخص عام 2015 إلى 250 ألف شخص فقط في عام 2021، وذلك للعديد من الأسباب منها تحسن الظروف المعيشية في أمريكا اللاتينية، ووباء كورونا، واستمرار الآثار السلبية لسياسات “ترامب” لمكافحة الهجرة حتى وقتنا الحالي.
يد عاملة ماهرة
هذا عن الولايات المتحدة، أما دول أوروبا الشرقية والوسطى فترى في ملايين اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الغزو الروسي يدًا عاملة ماهرة محتملة، وترحب بهم و”تميزهم” عن “لاجئي الجنوب”.
وكان نقص الأيدي العاملة بالإضافة إلى النمو القوي لبعض هذه الدول قد تطلب بالفعل في السنوات الأخيرة جلب العديد من العمال الأوكرانيين إلى مواقع البناء أو خطوط التجميع.
ولذلك فإن بولندا التي استقبلت حتى الآن قرابة 2.3 مليون لاجئ أوكراني أعلنت أن أكثر من نصف مليون منهم خرجوا بالفعل من البلاد نحو “وجهات أخرى”، ومن بينهم أكثر من ربع مليون لاجئ استقبلتهم ألمانيا التي اعتادت الاستفادة من اللاجئين بشكل مكثف في السنوات الأخيرة.
وعلى الرغم من أن بولندا تعلن عدم حاجتها لتوطين لاجئين، وهي التي استقبلت أكثر من نصف عدد اللاجئين للآن، فإن مئات آلاف آخرين توجهوا إلى مولدافيا وبلغاريا وهما من الدول التي تسجل أسرع معدلات في انخفاض عدد السكان.
وتعتبر “سيغليند روزنبرغر” الأستاذة في جامعة “فيينا” أن “الذين يصلون الآن إلى أراضي الاتحاد الأوروبي يتمتعون بمؤهلات ويلبون مطالب سوق العمل”.
أما في قبرص فقد طالب رجال الأعمال الحكومة بأن تعمل على توطين الأوكرانيين، مشيرين إلى أنهم قادرون على شغل ما يصل إلى مائتي ألف وظيفة شاغرة في مجال تكنولوجيا المعلومات أو الفنادق أو البناء أو المنسوجات.
السياسيون يرحبون
والملاحظ أن السياسيين في تلك الدول اتخذوا موقفا مرحبا بلاجئي أوكرانيا، ومنهم حتى من يعرف بمواقفه المعارضة للمهاجرين بشكل عام مثلما رحب رئيس الوزراء البلغاري “كيريل بيتكوف” باللاجئين الأوكرانيين بسبب أنهم “مسيحيون أرثوذكس” و”أذكياء ومتعلمون ويملكون مهارات عالية”.
أما رئيس الوزراء القومي المجري “فكتور أوربان” فقال: “يمكننا رؤية الفارق: من هو مهاجر، قادم من الجنوب ومن هو لاجئ”، وأضاف أن “المهاجرين الذين يأتون من الجنوب، نعتقلهم. أما هؤلاء اللاجئون فيحق لهم الحصول على كل مساعدتنا”.
وما يزيد من الترحيب الأمريكي- الأوروبي باللاجئين ما تشير إليه دراسة لمركز “راند” إلى أن “اللاجئين الجدد” (منذ 2010 تحديدا) أكثر قدرة على التكيف في المجتمعات الغربية بصورة سريعة، والكثير منهم لا يهتمون بمسألة العودة إلى بلدانهم الأصلية مثلما كان شائعا من قبل.
فالجيل الجديد من اللاجئين لديه فكرة جيدة للغاية عن طبيعة المعيشة في الغرب ويستطيع التكيف بصورة أسرع مع العوامل الاجتماعية والثقافية، كما أن كثيرا منهم أكثر تقبلًا لفكرة ضرورة تعلم اللغة بصورة سريعة، وغالبيتهم أيضًا يسعون للتكيف في مجتمعاتهم الجديدة أكثر مما يسعون للعودة إلى بلدانهم الأصلية.
ولذلك وفي غالبية أزمات اللاجئين الحديثة فإنه وبعد مرور عقد كامل لا تتخطى نسبة العائدين من اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية 30% فحسب، بينما يستوطن البقية في الدول التي استقبلتهم ويصبحون جزءا من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي.
ولهذا يشير الكثير من المراقبين إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تتحضر بالفعل لنقل مئات آلاف الأشخاص داخل الكتلة، وأن عمليات “فرز” تجري بين اللاجئين بحيث يتم الإبقاء على العجزة والأطفال الصغار على الحدود الأوكرانية تمهيدًا لإعادتهم إلى بلادهم بعد انتهاء النزاع على حساب نقل متوسطي العمر إلى دول أبعد مثل ألمانيا أو قبرص أو إيطاليا.