قدمت الحكومة المصرية طلباً إلى صندوق النقد الدولي، للبدء ببرنامج دعم اقتصادي، الأربعاء 23 مارس/آذار 2022، قال الصندوق إن أحد أهداف هذا البرنامج هو حماية “الفئات الأكثر هشاشة”.
ولكن التجربة التاريخية مع صندوق النقد الدولي تقول عكس ذلك؛ ففي المجمل دائماً تطبق إجراءات تقشفية بسبب هذه البرامج، رغم أن هناك استثناء، تمثله حالة الأرجنتين التي فاوضت حكومتها طويلاً مع الصندوق، لتخفيف شروطه التقشفية، وضمان عدم تأثير الإجراءات الاقتصادية على رفاه مواطنيها، وستحتاج مصر لمثل هذه المفاوضات الصعبة للوصول إلى النتيجة نفسها، على فرض أن الحكومة ستقوم فعلاً بالتفاوض لأجل تحقيق هذا الهدف.
وأعلن البنك الدولي، في بيانٍ على موقعه، استعداده لتقديم المساعدة اللازمة للاقتصاد المصري، ضمن الأهداف التالية: تخفيف آثار الصدمة الناتجة عن الأزمة الأوكرانية، وحماية الفئات الأكثر هشاشة، والحفاظ على مناعة الاقتصاد المصري، وطبعاً تحفيز النمو.
طبعاً، هذه الأهداف تشبه الأهداف المعلنة لبرنامج الصندوق في مصر عام 2016، والتي تضمنت إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد الكلي المصري، فقد كانت أهداف برنامج عام 2016 الذي استمر ثلاثة أعوام، كما يلي: تصحيح اختلالات الميزان التجاري الخارجي (الصادرات والمستوردات)، واستعادة التنافسية للاقتصاد المصري، ووضع عجز الموازنة في مسار الانخفاض، وتحفيز النمو، وخلق الوظائف، وأخيراً حماية الفئات “الأكثر هشاشة” أيضاً.
وكما أن البرنامج الماضي استلزم تعويم الجنيه، الذي تسبب في انخفاض قيمته أقل من 9 جنيهات للدولار الواحد، حتى وصل إلى 18 جنيهاً للدولار، واستقر عند حدود 15.7 ولفترة طويلة نسبياً، والبرنامج الحالي تطلَّب تخفيض قيمة الجنيه مرة أخرى، حتى وصل سعر الجنيه الحالي إلى 18.27 جنيه لكل دولار.
لم تحصل مصر على القرض الذي طلبته بعد، ومثل هذه القروض تمر بمراحل تتخللها مفاوضات بين الحكومة والصندوق، ولذلك لن نعرف الآثار الحقيقية للبرنامج الجديد إلا لاحقاً؛ لكن التجربة التاريخية مع الصندوق في مصر وغيرها من البلدان تخبرنا بأن البرنامج لن يكتفي بعدم تحقيق وعده بحماية “الفئات الأكثر هشاشة”؛ بل سيكون سبباً في سوء أوضاعها.
برنامج الصندوق طحن المصريين اقتصادياً
رغم الأهداف المعلنة للصندوق، فإن ما حصل على أرض الواقع كان مختلفاً تماماً، فقد تسبب برنامج صندوق النقد الدولي، وما ترتب عليه من تعويم للعملة، بآثار اقتصادية ضخمة على المصريين، وتحديداً على الأكثر فقراً وهشاشة منهم.
فقد سجلت مصر أعلى معدل تضخم بتاريخها في عام 2017 بسبب التعويم، كما تُبين ذلك “قاعدة بيانات البنك الدولي World Bank Data”، وبنسبة مقاربة لـ30%.
كما سجلت بعدها معدلات تضخم مرتفعة نسبياً أيضاً في العامين اللاحقين، بـ14.4% في عام 2018، و9% في عام 2019.
هذا يعني أن المعدل العام للأسعار ارتفع بنسبة 60% في ثلاث سنوات فقط! وهو تغيير كبير وملموس على معيشة المواطنين المصريين.
البنك المركزي المصري دائماً ما ينشر بيانات مفصلة عن التضخم والأسعار أيضاً، توضح فرق الأسعار خلال كل شهر، وضمن مختلف أنواع السلع والخدمات في الاقتصاد، وتساعدنا في فهم تغير أسعار السلع المختلفة.
وبما في ذلك ارتفاعات ضخمة في أسعار سلع أساسية بالنسبة للمصريين؛ فقد ارتفع سعر الأرز بنسبة 51% منذ بداية عام 2016 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، أما السكر فقد ارتفع بنسبة أعلى من 40% بقليل في الفترة نفسها، أما خدمات النقل البري التي عدلت الحكومة المصرية تعرفتها، فقد ارتفعت بنسبة 22% عما كانت عليه قبل عام.
وبعد عام من تطبيق هذه الإجراءات، استمرت الأسعار في الارتفاع، وسجلت مستويات أعلى من عام 2016، لترتفع الأسعار في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بنسبة 26%، عما كانت عليه في الشهر نفسه قبل عام، بعد أن حقق شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، نسبة 30% ارتفاعاً في الأسعار.
وطبعاً تُظهر التفاصيل ارتفاعاً مخيفاً في أسعار سلع أساسية أيضاً، فقد ارتفع سعر الطعام بنسبة 30%، والنقل والمواصلات بنسبة مقاربة لـ20%، وحتى خدمات أخرى مثل التعليم ارتفعت بنسبة مقاربة لـ20%، والصحة بنسبة 14.5%.
لكن الارتفاع المطرد في الأسعار بدأ بالهدوء بعد الصدمة الكبيرة والمفاجئة في بداية البرنامج، دون أن يعني ذلك أن معدلات التضخم وصلت إلى حدود معقولة، أو أن الدولة قدمت أي شكل من أشكال الدعم لـ”الفئات الأكثر هشاشة” في الاقتصاد، لمواجهة خطر انخفاض قدرتهم الشرائية.
ارتفاع معدلات الفقر وانخفاض الدعم الاجتماعي
تسببت هذه الإجراءات في رفع معدل الفقر لمصر، فبينما كانت نسبة الفقراء في مصر 27.8% في السنة المالية 2015-2016، ارتفعت في عام 2017-2018 لتصبح 32.5%، لكنها -بحسب الإحصاءات المصرية- عادت للتراجع في عام 2019-2020، لتصبح 29.7%.
لكن البنك الدولي أصدر بياناً في مايو/أيار 2019، يقول فيه إن 60% من سكان مصر إما فقراء، وإما عرضة للفقر، وهي نسبة مخيفة جداً.
يعود “الفضل” في ذلك أيضاً إلى برنامج الصندوق؛ فأحد آثار هذا البرنامج هو تخفيض الإنفاق على الدعم الاجتماعي، الذي يقدم لهذه الفئات “الأكثر هشاشة” في الاقتصاد، لحمايتها ودعم أمنها المادي.
فبحسب موقع وزارة المالية المصرية، كانت الدولة تنفق 26% من إجمالي مصروفاتها على الدعم الاجتماعي، وذلك في السنة المالية 2015-2016.
لكن هذا الدعم المقدم لهذه الفئات تقلص من إجمالي مصروفات الدولة لاحقاً، حتى وصل في عام 2019-2020 إلى 21% فقط.
وبطبيعة الحال فإن هذا التغير في النسبة أفاد بنوداً أخرى في الميزانية، أهمها بند دفع فوائد الديون، التي ارتفعت بشكل ملحوظ خلال هذه السنوات.
التجربة الأرجنتينية المختلفة
يشترط صندوق النقد الدولي عادةً فرض سياسات تقشفية في الاقتصاد، ويعد التقشف أحد أهم شروط الموافقة على منح القروض من قبل صندوق النقد الدولي.
يمكننا القول إن غالبية قروض الصندوق لا تمر دون فرض إجراءات التقشف، لكن ذلك يحصل بعد مفاوضات طويلة بين الحكومات التي تطلب القروض، وفِرَق صندوق النقد.
قد تحاول بعض الحكومات الضغط على الصندوق لتخفيف الإجراءات التقشفية، أو محوها تماماً من شروط الاتفاق على القرض، وهذا يعتمد على توجهات الحكومة نفسها، ومدى حماستها لتطبيق نصائح الصندوق وما يراه مناسباً في الاقتصاد.
في العادة، لا تنجح الدول في تقليل سياسات التقشف أو محوها، لكن الأرجنتين سجلت تغيراً مهماً في هذا المجال، بعد مفاوضات طويلة دامت شهوراً، وبعد أن رأى الصندوق أن برنامجه الأخير الموقع في عام 2018 لم ينجح في تحقيق أهدافه، وأعلن الصندوق نفسه أنه من المحتمل أن تتعثر الأرجنتين في سداد ديونها للصندوق، بحسب Foreign Policy.
الحكومة الأرجنتينية التي تشكلت بعد البرنامج الأخير، بعد انتخابات عام 2019، تشكلت من خليط يعارض سياسات الصندوق بشكل متفاوت.
لذلك ضغطت الحكومة على صندوق النقد كثيراً للتخلي عن سياسات التقشف الاقتصادي، والسماح لها بتحصيل القرض من الصندوق، دون أن تغير خططها للتعافي الاقتصادي، والتي تتضمن عدم تخفيض الإنفاق الحكومي، وعدم تطبيق سياسات تقشف تضر الفقراء والفئات الأكثر تهميشاً، وتمنع خلق وظائف جديدة في الاقتصاد.
وتمكنت الحكومة الأرجنتينية في النهاية، من الوصول إلى مطالبها ولو بشكل جزئي، وأصبح هذا الاتفاق علامة على قدرة الحكومات ضمن ظروف معينة وبعد تفاوض صعب، على إقناع الصندوق بأن يمنح قروضاً دون الحاجة إلى إجراءات التقشف.
ولكن وبعد أن قررت الحكومة المصرية تخفيض قيمة العملة استجابة للصندوق، فليس من المتوقع أن تختلف شروط الصندوق فيما يخص السياسات الاقتصادية القادمة، عن سابقتها في عام 2016.
كما صدرت إشارات رسمية من مصر تنبئ برغبتها في تغيير الدعم الممنوح على سلع أساسية، بينها القمح والخبز. كل ذلك يدعم فرضية أن الاتفاق القادم، والشروط المفروضة بسببه على مصر، ستعني تدهوراً جديداً في الأحوال المعيشية للمصريين.